هناك أماكن في مدن العالم لا تمر بها عابراً، بل هي التي تمر بك، تخترقك بتاريخها الثقيل، وتترك في نفسك أثراً كعلامة ماء باهتة على ورق قديم. في قلب صوفيا، تلك العاصمة البلغارية الهادئة التي تشبه جدّة وقورة تجلس في شرفتها، تقف كاتدرائية "سفيتا نيديليا" أو "الأحد المقدس". لا تقف كبنيان من حجر وطوب وقباب نحاسية صدئة فحسب، بل كشاهدٍ حي، وذاكرة مثقوبة لا تزال تنزف حكايات.
للوهلة الأولى، تبدو الكاتدرائية بناءً أرثوذكسياً شرقياً كلاسيكياً، بقبتها المركزية المهيبة التي تلمع تحت شمس البلقان الخجولة، وأقواسها التي تحتضن الظلال. قد تراها مجرد خلفية جميلة لصورة تذكارية، أو محطة أخرى في دليل سياحي. لكن أن تقف أمامها يعني أن تستدعي أشباح الماضي، وأن تسمع همساً خفيضاً تحت ضجيج المدينة الحديثة. هذا ليس مجرد بيت للرب، بل مسرح تراجيدي لأكثر فصول بلغاريا دموية.
أتأمل الواجهة التي أعيد بناؤها مراراً، وأحاول أن أرى ما هو أبعد من الحجر. أحاول أن أرى يوم السادس عشر من أبريل عام ١٩٢٥. في ذلك اليوم، لم تكن "سفيتا نيديليا" مكاناً للصلاة، بل كانت فخاً للموت. في ذلك اليوم، تحولت تراتيل الجنازة على الجنرال كونستانتين جورجييف إلى انفجار يصم الآذان، حين فجّر الحزب الشيوعي سقف الكاتدرائية في محاولة لاغتيال القيادة العسكرية والسياسية للبلاد، وعلى رأسها القيصر بوريس الثالث الذي نجا بمحض صدفة.
أغمض عيني، وأكاد أرى سحابة الغبار والدخان تتصاعد لتلتهم القبة، وأسمع صراخ المئة والخمسين قتيلاً، وأنين مئات الجرحى. هنا، تحت هذه القبة التي تراها الآن شامخة، اختلط غبار الأيقونات المقدسة بغبار الموت، وتناثرت دماء النخبة على جدران كانت تُتلى عليها وصايا المحبة والسلام. لم يكن الانفجار مجرد هجوم، بل كان صرخة سياسية مدوية، رسالة كتبت بالدم والمتفجرات في قلب الأمة وروحها.
لكن "سفيتا نيديليا" ليست مجرد حكاية عن الموت. إنها، في جوهرها، حكاية عن الصمود العنيد، عن قدرة الروح على ترميم ذاتها كما يُرمم الحجر. تماماً كما نهضت من تحت أنقاض ذلك اليوم المشؤوم، لتعود وتُبنى من جديد، حاملةً ندوبها كأوسمة شرف. إنها تجسيد لفكرة الخلود التي تتجاوز الأفراد والأيديولوجيات.
تجولت في داخلها، حيث رائحة البخور القديم تمتزج ببرودة الرخام. الضوء الخافت الذي يتسلل عبر النوافذ الزجاجية الملونة يضفي على المكان رهبة، ويرسم لوحات متغيرة على وجوه القديسين في الأيقونات الذهبية. هنا، ترقد رفات الملك الصربي ستيفان ميلوتين، كأن الكاتدرائية تحتضن تاريخ البلقان كله، بتعقيداته وصراعاته ولحظات تقاربه.
لم أكن أرى مجرد مصلين يشعلون شموعاً رقيقة تتراقص نيرانها كأرواح حائرة، بل كنت أرى أجيالاً تأتي وتذهب. أجيال ولدت بعد المأساة، لا تعرف عنها إلا ما قرأته في كتب التاريخ، لكنها تقف في نفس البقعة، تتنفس نفس الهواء، وتشارك في طقس صامت من الاستمرارية. الشموع التي يشعلونها اليوم ليست فقط للصلاة والدعاء، بل هي، دون وعي منهم، إضاءة لذاكرة المكان، وتأكيد على أن الحياة، مثل هذه الكاتدرائية، تُرمم نفسها وتستمر.
الخروج من "سفيتا نيديليا" والعودة إلى شوارع صوفيا الصاخبة يشبه الاستيقاظ من حلم كثيف. ترى الترام الأصفر الأنيق يمر، والشباب يضحكون في المقاهي المجاورة، وتدرك أن المدينة مضت قدماً. لكن الكاتدرائية تبقى هناك، في مركز كل شيء، كقلبٍ حجري ينبض بالتاريخ، يذكر الجميع بأن الهدوء الظاهر قد يخفي تحته طبقات من الألم والبسالة، وأن أكثر الأماكن قداسةً هي تلك التي عرفت كيف تنهض من رمادها، لتروي قصة البقاء في وجه الفناء.