الجمعة، 23 مايو 2025

توحيد المعايير: لماذا نحاول جعل تقارير ESG متشابهة؟ (دور ISSB)

في الماضي، كانت كل شركة تتحدث عن ESG بطريقتها الخاصة، وكان هناك الكثير من المعايير والإطارات المختلفة. هذا جعل الأمر مربكاً للمستثمرين، وصعب عليهم مقارنة الشركات. تخيل أن كل مدرسة تستخدم كتباً وامتحانات مختلفة تماماً لنفس الصف!

 ما هو ISSB؟ هو مجلس (اسمه المجلس الدولي لمعايير الاستدامة) أُنشئ ليعمل على وضع مجموعة أساسية عالمية من معايير الإفصاح عن الاستدامة. الهدف هو أن تتحدث الشركات بنفس "اللغة" عندما يتعلق الأمر بمعلومات ESG، تماماً كما يوجد معايير محاسبية موحدة (مثل IFRS) لجعل التقارير المالية متشابهة عالمياً. 

 

ما الفائدة؟
  • يسهل على المستثمرين فهم ومقارنة أداء الشركات في ESG.
  • يساعد الشركات على فهم ما يجب الإفصاح عنه.
  • من المتوقع أن يجعل معلومات ESG أكثر موثوقية.


السبت، 10 مايو 2025

مصادم الهادرونات فائق التوصيل (SSC): حلم الفيزياء الضخم الذي تبدد

مصادم الهادرونات فائق التوصيل (SSC): حلم الفيزياء الضخم الذي تبدد

كان مشروع "مصادم الهادرونات فائق التوصيل" (Superconducting Super Collider - SSC)، المعروف أيضًا بلقب "ديزرترون" (Desertron)، طموحًا علميًا هائلاً يهدف إلى بناء أكبر وأقوى مسرّع جسيمات في العالم.1 كان من المفترض أن يفتح آفاقًا جديدة في فهمنا للكون والمادة، ولكنه تحول إلى واحد من أكثر المشاريع العلمية تكلفة وإثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة، لينتهي به المطاف إلى الإلغاء بعد إنفاق مليارات الدولارات.

الهدف العلمي: سبر أغوار المادة والطاقة

كان الهدف الأساسي من بناء مصادم الهادرونات فائق التوصيل هو استكشاف الأسئلة الأساسية في فيزياء الجسيمات، والتعمق في فهم اللبنات الأساسية للمادة والقوى التي تحكمها. كان العلماء يأملون أن يمكنهم المصادم من:

  • اكتشاف بوزون هيغز: كان البحث عن بوزون هيغز، الجسيم المسؤول عن منح الجسيمات الأخرى كتلتها وفقًا للنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، أحد الأهداف الرئيسية. في ذلك الوقت، كان وجود بوزون هيغز مجرد افتراض نظري. (لاحقًا، تم اكتشاف بوزون هيغز في عام 2012 في مصادم الهادرونات الكبير (LHC) في سيرن بسويسرا).
  • استكشاف فيزياء ما وراء النموذج القياسي: كان من المؤمل أن يكشف المصادم عن جسيمات وقوى جديدة تتجاوز ما يصفه النموذج القياسي، مثل جسيمات التناظر الفائق (supersymmetry)، والمساعدة في فهم المادة المظلمة والطاقة المظلمة.
  • محاكاة ظروف الانفجار العظيم: كان من شأن الطاقات الهائلة التي يولدها المصادم أن تسمح للعلماء بمحاكاة الظروف التي سادت في اللحظات الأولى بعد الانفجار العظيم، مما يوفر نظرة أعمق على نشأة الكون.

الموقع: في صحراء تكساس الشاسعة

بعد عملية اختيار تنافست فيها عدة ولايات، تم اختيار موقع بالقرب من مدينة واكساهاشي (Waxahachie) في ولاية تكساس لبناء المصادم. تم اختيار هذا الموقع لعدة أسباب، منها:

  • الاستقرار الجيولوجي: اعتبرت المنطقة مناسبة من الناحية الجيولوجية لحفر الأنفاق الضخمة.
  • توفر الأراضي: الحاجة إلى مساحات واسعة من الأراضي لبناء الحلقة والمرافق المرتبطة بها.
  • الدعم المحلي والسياسي: قدمت ولاية تكساس حوافز ودعمًا كبيرًا لاستضافة المشروع.

التصميم والمواصفات: عملاق فيزيائي

كان تصميم المصادم مذهلاً في حجمه وطاقته المخطط لها:

  • محيط الحلقة: كان من المخطط أن يبلغ محيط الحلقة الرئيسية للمصادم حوالي 87.1 كيلومترًا (54.1 ميلًا)، وهو أكبر بكثير من أي مسرع جسيمات تم بناؤه من قبل أو بعده حتى الآن (مصادم الهادرونات الكبير في سيرن يبلغ محيطه 27 كيلومترًا).2
  • طاقة التصادم: كان المصادم مصممًا لتسريع حزمتين من البروتونات في اتجاهين متعاكسين داخل الحلقة، وتصادمهما بطاقة هائلة تبلغ 20 تيرا إلكترون فولت (TeV) لكل حزمة، أي طاقة تصادم إجمالية تبلغ 40 تيرا إلكترون فولت. هذه الطاقة كانت ستفوق بكثير طاقة أي مصادم آخر.
  • المغناطيسات فائقة التوصيل: سبب تسميته "فائق التوصيل" يعود إلى اعتماده على آلاف المغناطيسات القوية فائقة التوصيل. هذه المغناطيسات، المبردة إلى درجات حرارة شديدة الانخفاض (قريبة من الصفر المطلق)، يمكنها توليد مجالات مغناطيسية قوية جدًا بأقل مقاومة كهربائية، وهو أمر ضروري لتوجيه حزم البروتونات عالية الطاقة بدقة حول الحلقة الضخمة.

التاريخ والجدول الزمني: من الحلم إلى بداية البناء

  • التصور والمقترح: بدأت فكرة المصادم في التبلور في أوائل الثمانينيات في مجتمع فيزياء الطاقة العالية في الولايات المتحدة.
  • الموافقة وبدء التمويل: حصل المشروع على موافقة ودعم من إدارة الرئيس رونالد ريغان في عام 1987.
  • اختيار الموقع وبدء البناء: تم اختيار موقع واكساهاشي في تكساس عام 1988، وبدأت أعمال البناء الفعلية في أوائل التسعينيات، بما في ذلك حفر أجزاء كبيرة من الأنفاق وبناء بعض المباني السطحية.

الإلغاء الصادم: نهاية مفاجئة لحلم علمي كبير

في أكتوبر 1993، بعد سنوات من العمل وإنفاق مليارات الدولارات، صوت الكونغرس الأمريكي على إلغاء مشروع مصادم الهادرونات فائق التوصيل. كان هذا القرار بمثابة صدمة كبيرة للمجتمع العلمي في الولايات المتحدة وحول العالم. تعددت الأسباب التي أدت إلى هذا القرار:

  • التكاليف المتصاعدة: ارتفعت التكلفة التقديرية للمشروع بشكل كبير من التقديرات الأولية. بدأت التقديرات الأولية بحوالي 4.4 مليار دولار في عام 1987، ولكن بحلول عام 1993، كانت التوقعات تشير إلى أن التكلفة الإجمالية قد تتجاوز 11-12 مليار دولار (ما يعادل أكثر من 20 مليار دولار بأسعار اليوم).
  • سوء الإدارة والميزانية: واجه المشروع اتهامات بسوء الإدارة وعدم كفاءة في التحكم في الميزانية والتكاليف.
  • المناخ السياسي المتغير: مع نهاية الحرب الباردة، تغيرت الأولويات السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة. زاد التركيز على خفض العجز في الميزانية، وأصبح تمويل المشاريع العلمية الضخمة أقل شعبية.
  • نقص الدعم الدولي: على عكس مصادم الهادرونات الكبير في سيرن، الذي هو مشروع تعاوني دولي، كان مصادم الهادرونات فائق التوصيل مشروعًا أمريكيًا في المقام الأول، مع مساهمات دولية محدودة نسبيًا.
  • المنافسة العلمية والأولويات: تساءل بعض العلماء والسياسيين عما إذا كان هذا الاستثمار الضخم في مشروع واحد هو أفضل استخدام للموارد المخصصة للبحث العلمي، خاصة مع وجود مشاريع علمية أخرى مهمة تتنافس على التمويل.

التكلفة: مليارات بلا عائد علمي مباشر

  • التكلفة الأولية المقدرة: حوالي 4.4 مليار دولار (في عام 1987).
  • التكلفة المتوقعة عند الإلغاء: تجاوزت 11 مليار دولار.
  • الأموال المنفقة قبل الإلغاء: تم إنفاق حوالي 2 مليار دولار على المشروع قبل إيقافه.

التقدم المحرز عند الإلغاء:

عندما تم إلغاء المشروع، كان العمل قد قطع شوطًا كبيرًا:

  • تم حفر حوالي 23.5 كيلومترًا (14.6 ميلًا) من الأنفاق، أي ما يقرب من ربع الطول الإجمالي المخطط له.
  • تم بناء العديد من المباني السطحية والمرافق.
  • تم تصنيع واختبار نماذج أولية للمغناطيسات فائقة التوصيل.

عواقب الإلغاء: صدمة وخيبة أمل

كان لإلغاء مصادم الهادرونات فائق التوصيل عواقب وخيمة:

  • تأثير على مجتمع فيزياء الطاقة العالية في الولايات المتحدة: شعر العديد من العلماء بخيبة أمل وإحباط كبيرين. أدى الإلغاء إلى فقدان الزخم في أبحاث فيزياء الطاقة العالية في الولايات المتحدة، وانتقل العديد من الفيزيائيين الأمريكيين للعمل في مختبرات أوروبية مثل سيرن.
  • فقدان الريادة الأمريكية: كان يُنظر إلى المشروع على أنه فرصة للولايات المتحدة للحفاظ على ريادتها العالمية في مجال فيزياء الجسيمات. أدى إلغاؤه إلى انتقال مركز الثقل في هذا المجال إلى أوروبا مع بناء مصادم الهادرونات الكبير.
  • مصير الموقع والبنية التحتية: تُركت الأنفاق المحفورة والمباني المبنية مهجورة لبعض الوقت. في وقت لاحق، تم بيع الموقع لمستثمرين من القطاع الخاص.

مقارنات مع مصادمات أخرى:

كان مصادم الهادرونات فائق التوصيل مصممًا ليكون أكبر وأقوى بكثير من مصادم الهادرونات الكبير (LHC) في سيرن، والذي بدأ العمل فيه لاحقًا وحقق اكتشافات هامة مثل بوزون هيغز. لو اكتمل مصادم الهادرونات فائق التوصيل، لربما تمكن من تحقيق هذه الاكتشافات في وقت أبكر وبطاقات أعلى.

الإرث والدروس المستفادة: عبرة في إدارة "العلوم الكبرى"

على الرغم من فشله في تحقيق أهدافه العلمية، ترك مشروع مصادم الهادرونات فائق التوصيل إرثًا ودروسًا مهمة:

  • إدارة المشاريع العلمية الضخمة: أكد المشروع على التحديات الهائلة التي تواجه إدارة وتمويل "العلوم الكبرى" (Big Science)، والحاجة إلى تخطيط دقيق وشفافية وإدارة فعالة للتكاليف والمخاطر.
  • أهمية الدعم السياسي المستدام: أظهر كيف يمكن للتغيرات في المناخ السياسي والأولويات الحكومية أن تؤثر بشكل كبير على مصير المشاريع العلمية طويلة الأمد.
  • التعاون الدولي: ربما لو كان المشروع قائمًا على نموذج تعاون دولي أوسع، لكانت فرص نجاحه أكبر.
  • نقطة تحول: يعتبر البعض إلغاء المشروع نقطة تحول في كيفية تمويل وإدارة مشاريع الفيزياء الأساسية في الولايات المتحدة.

الوضع الحالي للموقع (مايو 2025): استخدامات جديدة لأطلال الحلم العلمي

بعد إلغاء المشروع، تم إغلاق الأنفاق وتوقفت أعمال البناء. في وقت لاحق، تم شراء الموقع من قبل مجموعة استثمارية خاصة. حاليًا، تم تطوير جزء من الموقع ليصبح مركزًا صناعيًا وتكنولوجيًا يُعرف باسم "Gigapark" أو ما شابه، ويضم شركات ومرافق تخزين ومراكز بيانات، مستفيدًا من بعض البنية التحتية القائمة والأنفاق التي تم تحويلها لأغراض أخرى.

خاتمة: طموح علمي لم يكتمل

يظل مشروع مصادم الهادرونات فائق التوصيل قصة تحذيرية عن طموح علمي هائل واجه تحديات اقتصادية وسياسية أدت إلى نهايته المبكرة. ورغم أنه لم ير النور كمرفق بحثي، إلا أن قصته تقدم دروسًا قيمة حول تعقيدات السعي وراء المعرفة على نطاق واسع، والتوازن الدقيق بين الرؤية العلمية والواقع العملي.

أرينا دا أمازونيا: تحفة معمارية في قلب الأمازون وإرث معقد لكأس العالم

أرينا دا أمازونيا: تحفة معمارية في قلب الأمازون وإرث معقد لكأس العالم

يُعد ملعب "أرينا دا أمازونيا" (Arena da Amazônia) في مدينة ماناوس البرازيلية واحدًا من أكثر الملاعب إثارة للجدل التي تم بناؤها خصيصًا لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2014. بتصميمه المستوحى من غابات الأمازون المطيرة وموقعه الفريد، كان يهدف ليكون رمزًا للبرازيل الحديثة والتزامها بالاستدامة، لكنه واجه تحديات كبيرة تتعلق بتكلفته واستخدامه بعد البطولة، ليصبح مثالاً آخر على ما يُعرف بـ "الأفيال البيضاء" في عالم المنشآت الرياضية.

الهدف من الإنشاء: حلم المونديال في قلب الغابة

كان الدافع الرئيسي لبناء ملعب "أرينا دا أمازونيا" هو استضافة مباريات ضمن بطولة كأس العالم لكرة القدم 2014 التي أقيمت في البرازيل. تم اختيار ماناوس، عاصمة ولاية أمازوناس وأكبر مدن منطقة الأمازون، كإحدى المدن المستضيفة، وهو قرار أثار الكثير من النقاش نظرًا لبعدها عن المراكز الكروية الرئيسية في البلاد والتحديات اللوجستية والمناخية. كان الهدف إظهار تنوع البرازيل وقدرتها على تنظيم حدث عالمي حتى في أبعد وأكثر مناطقها حساسية بيئيًا.

تم بناء الملعب في موقع ملعب "فيفالداو" (Vivaldão) القديم الذي تم هدمه.

التصميم المعماري: سلة الأمازون الفولاذية

صمم الملعب شركة الهندسة المعمارية الألمانية "جي إم بي أركيتكتن" (gmp Architekten)، بالتعاون مع شركة "ستاديا" البرازيلية وشركة الهندسة الإنشائية "شلايش بيرغرمان وشركاه". استوحي التصميم الخارجي للملعب من سلال الفاكهة التقليدية المصنوعة من القش في منطقة الأمازون، ويتكون هيكله الخارجي من شبكة متشابكة من عوارض فولاذية مجوفة تلتف حول الملعب.

  • السعة: يتسع الملعب لحوالي 39,118 إلى 44,400 متفرج (تختلف الأرقام قليلاً بين المصادر، مع سعة محدودة خلال كأس العالم بلغت حوالي 40,549 متفرجًا).
  • الهيكل: يتكون الهيكل الداعم للسقف من عوارض فولاذية كابولية ذات تجويف، تعمل أيضًا كمزاريب ضخمة لتصريف كميات الأمطار الاستوائية الغزيرة.
  • الواجهة والسقف: تم استخدام ألواح من الألياف الزجاجية الشفافة والمطلية بمادة عاكسة للحرارة في السقف والواجهة، مما يوفر الظل ويساعد على التهوية الطبيعية ويقلل من اكتساب الحرارة داخل الملعب، وهو أمر حيوي في مناخ ماناوس الحار والرطب.

تكلفة البناء: أرقام مثيرة للجدل

تُقدر تكلفة بناء الملعب بحوالي 270-300 مليون دولار أمريكي (حوالي 605-670 مليون ريال برازيلي في ذلك الوقت). أثارت التكلفة، مثل العديد من ملاعب كأس العالم الأخرى في البرازيل، جدلاً وانتقادات، خاصة بالنظر إلى الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى في المنطقة.

كأس العالم 2014: أربع مباريات في حرارة الأمازون

استضاف ملعب "أرينا دا أمازونيا" أربع مباريات خلال نهائيات كأس العالم 2014:

  1. إنجلترا ضد إيطاليا (1-2)
  2. الكاميرون ضد كرواتيا (0-4)
  3. الولايات المتحدة ضد البرتغال (2-2)
  4. هندوراس ضد سويسرا (0-3)

تميزت المباريات بالظروف المناخية الصعبة للاعبين بسبب الحرارة والرطوبة العالية، حتى أنه تم تطبيق "استراحة مياه" رسمية خلال مباراة الولايات المتحدة والبرتغال، وهو أمر نادر في تاريخ كأس العالم.

ما بعد كأس العالم: تحديات الاستخدام وصراع البقاء

بعد انتهاء البطولة، واجه "أرينا دا أمازونيا" التحدي الأكبر: إيجاد استخدام مستدام يبرر وجوده وتكاليف صيانته الباهظة.

  • الاستخدام المحدود: تعاني مدينة ماناوس من غياب فرق كرة قدم قوية تلعب في الدوريات البرازيلية الكبرى، مما يعني أن مباريات كرة القدم المحلية تجذب أعدادًا قليلة جدًا من الجماهير لا تتناسب مع سعة الملعب الضخمة.
  • تكاليف الصيانة: تتطلب المحافظة على ملعب بهذا الحجم، خاصة في مناخ استوائي قاسٍ، ميزانية كبيرة. الرطوبة العالية والحرارة تؤثران على الهيكل والمرافق بشكل مستمر.
  • "الفيل الأبيض": سرعان ما وُصف الملعب بأنه "فيل أبيض" – مشروع مكلف ذو فائدة عملية قليلة بعد الحدث الرئيسي الذي بُني من أجله.
  • محاولات تنويع الاستخدام: تم بذل جهود لاستخدام الملعب في فعاليات أخرى غير كرة القدم، مثل الحفلات الموسيقية (استضاف حفل فرقة Guns N' Roses)، والمؤتمرات، والفعاليات الدينية المسيحية الإنجيلية، والمهرجانات الثقافية. ورغم أن هذه الاستخدامات ساعدت في الحفاظ على بعض النشاط، إلا أنها لم تكن كافية لتغطية تكاليف التشغيل أو تحقيق الاستدامة المالية.
  • العرض للبيع: في مرحلة ما بعد كأس العالم (حوالي عام 2015)، وردت تقارير تفيد بأن حكومة ولاية أمازوناس، المالكة للملعب، عرضته للبيع أو الإدارة من قبل القطاع الخاص بسبب صعوبات مالية في تغطية تكاليف تشغيله.

ميزات الاستدامة: تصميم صديق للبيئة؟

تم الترويج لملعب "أرينا دا أمازونيا" كأحد أكثر ملاعب كأس العالم استدامة، وحصل على شهادة LEED (الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة) من المجلس الأمريكي للمباني الخضراء. تضمنت ميزات الاستدامة المزعومة:

  • إعادة استخدام المواد: استخدام أكثر من 95% من المواد الناتجة عن هدم الملعب القديم في بناء الملعب الجديد.
  • تجميع مياه الأمطار: تصميم السقف لجمع مياه الأمطار الغزيرة لاستخدامها في المراحيض وري أرضية الملعب.
  • التهوية الطبيعية والتظليل: تصميم الواجهة والسقف لتوفير الظل وتقليل الاعتماد على تكييف الهواء.
  • الطاقة الشمسية: كانت هناك خطط أولية لتزويد الملعب بالطاقة الشمسية بشكل كامل، لكن يبدو أن هذه الخطط تم تقليصها أو التخلي عنها بسبب التأخير في البناء وارتفاع التكاليف.
  • "الجدران النباتية": استخدام شاشات نباتية حول الملعب للمساعدة في العزل وخفض تكاليف الطاقة.

الخلافات والانتقادات:

لم يسلم المشروع من الانتقادات والخلافات:

  • التكلفة مقابل الفائدة: شكك الكثيرون في جدوى إنفاق مئات الملايين من الدولارات على ملعب في مدينة لا تمتلك فريق كرة قدم كبير، بينما تعاني المنطقة من احتياجات أساسية في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية.
  • تأخيرات البناء: واجه بناء الملعب تأخيرات، مما أثار شكوكًا حول جاهزيته لاستضافة مباريات كأس العالم.
  • ظروف العمال: وردت تقارير عن حوادث عمل ووفيات بين العمال خلال فترة البناء.
  • التأثير البيئي: على الرغم من الحديث عن الاستدامة، أثيرت تساؤلات حول التأثير البيئي الفعلي لبناء مشروع بهذا الحجم في منطقة حساسة بيئيًا مثل الأمازون.

الوضع الحالي والإرث (مايو 2025):

حتى أوائل عام 2025، يظل ملعب "أرينا دا أمازونيا" رمزًا للإمكانيات الهندسية والتصميم المبتكر، ولكنه في الوقت نفسه يمثل تحديًا مستمرًا للسلطات المحلية في ماناوس. يستمر استخدامه بشكل متقطع للمباريات المحلية وبعض الفعاليات الأخرى، لكنه يكافح لتحقيق الاستدامة المالية والتكامل الكامل مع النسيج الحضري والاقتصادي للمدينة.

إرث "أرينا دا أمازونيا" معقد. فمن ناحية، جلب الملعب اهتمامًا عالميًا لماناوس خلال كأس العالم وكان مصدر فخر مؤقت للمدينة. ومن ناحية أخرى، يُنظر إليه على نطاق واسع كمثال على سوء تخصيص الأموال العامة وعدم التخطيط الكافي لمرحلة ما بعد الحدث، وهي مشكلة شائعة في العديد من مشاريع البنية التحتية الرياضية الكبرى حول العالم. يبقى السؤال حول ما إذا كان يمكن للملعب أن يجد دورًا أكثر حيوية ومستدامًا في مستقبل ماناوس.

خاتمة:

يقف "أرينا دا أمازونيا" كتحفة معمارية مستوحاة من بيئتها الفريدة، لكنه يطرح أسئلة مهمة حول أولويات الاستثمار، والتخطيط طويل الأجل للمنشآت الرياضية، والتوازن بين الطموحات الوطنية والتنمية المحلية المستدامة..

الجمعة، 9 مايو 2025

مجلس معايير الاستدامة الدولية (ISSB)

 

تأسيس مجلس معايير الاستدامة الدولية (ISSB): خطوة محورية نحو توحيد الإفصاح عن الاستدامة عالميًا

في خطوة تاريخية تهدف إلى تلبية الطلب المتزايد على معلومات متسقة وقابلة للمقارنة عالميًا بشأن الاستدامة، تم الإعلان عن تأسيس مجلس معايير الاستدامة الدولية (ISSB) في نوفمبر 2021 خلال مؤتمر الأمم المتحدة السادس والعشرين لتغير المناخ (COP26). جاء هذا التأسيس بمبادرة من مؤسسة المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS Foundation)، وهي هيئة مستقلة ذات نفوذ واسع في وضع المعايير المحاسبية العالمية.

يهدف المجلس بشكل أساسي إلى تطوير مجموعة شاملة من معايير الإفصاح عن الاستدامة ذات جودة عالية، مصممة لتزويد المستثمرين وأسواق رأس المال الأخرى بمعلومات حول المخاطر والفرص المتعلقة بالاستدامة للشركات، وذلك لدعم اتخاذ قرارات استثمارية مستنيرة.

الأهداف الرئيسية لمجلس معايير الاستدامة الدولية:

  • تطوير خط أساس عالمي: يسعى المجلس إلى وضع معايير تشكل قاعدة عالمية للإفصاحات المتعلقة بالاستدامة، مما يعزز الشفافية والمساءلة.
  • تلبية احتياجات المستثمرين: التركيز الأساسي للمعايير هو تلبية احتياجات المعلومات للمستثمرين العالميين عند تقييمهم لقيمة الشركات.
  • تمكين الشركات: مساعدة الشركات على تقديم معلومات استدامة شاملة ومفيدة لأسواق رأس المال العالمية.
  • إنشاء لغة مشتركة: توفير لغة موحدة للإفصاحات المتعلقة بالاستدامة، مع إتاحة المرونة للجهات التنظيمية لإضافة متطلبات إقليمية أو محلية إضافية.

دمج وتوحيد الأطر القائمة:

جاء تأسيس مجلس معايير الاستدامة الدولية (ISSB) لتوحيد الجهود المتفرقة في مجال إعداد تقارير الاستدامة. حيث قام المجلس بدمج هيئات ومبادرات بارزة كانت تعمل في هذا المجال، وأبرزها:

  • مجلس معايير الإفصاح المناخي (CDSB)
  • مؤسسة الإبلاغ عن القيمة (VRF)، والتي كانت تضم سابقًا مجلس معايير محاسبة الاستدامة (SASB) والمجلس الدولي للتقارير المتكاملة (IIRC).

كما يستند عمل المجلس بشكل كبير إلى توصيات فريق العمل المعني بالإفصاحات المالية المتعلقة بالمناخ (TCFD)، وقد أعلنت مؤسسة المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية أن المجلس سيتولى مسؤوليات مراقبة التقدم المحرز في الإفصاحات المتعلقة بالمناخ نيابة عن TCFD اعتبارًا من عام 2024.

إصدار أول معيارين (IFRS S1 و IFRS S2):

في يونيو 2023، أصدر مجلس معايير الاستدامة الدولية أول معيارين تاريخيين له، وهما:

  1. المعيار الدولي لإعداد التقارير المالية S1 (IFRS S1) "المتطلبات العامة للإفصاح عن المعلومات المالية المتعلقة بالاستدامة":

    • يضع هذا المعيار المبادئ الأساسية للإفصاح عن جميع المخاطر والفرص الهامة المتعلقة بالاستدامة والتي يمكن أن تؤثر بشكل معقول على آفاق الشركة (التدفقات النقدية، الوصول إلى التمويل، أو تكلفة رأس المال على المدى القصير والمتوسط والطويل).
    • يتطلب من الشركات تقديم معلومات جوهرية حول حوكمتها واستراتيجيتها وإدارة المخاطر والمقاييس والأهداف المتعلقة بالاستدامة.
    • يهدف إلى ضمان أن تكون الإفصاحات المتعلقة بالاستدامة متصلة بالبيانات المالية وأن يتم نشرها في نفس وقت نشر التقارير المالية.
  2. المعيار الدولي لإعداد التقارير المالية S2 (IFRS S2) "الإفصاحات المتعلقة بالمناخ":

    • يحدد هذا المعيار متطلبات الإفصاح المحددة للمخاطر والفرص المتعلقة بالمناخ.
    • يتضمن متطلبات للإفصاح عن المخاطر المادية (Physical Risks) ومخاطر التحول (Transition Risks) والفرص المناخية.
    • يتبنى هيكل التوصيات الأربعة لفريق العمل المعني بالإفصاحات المالية المتعلقة بالمناخ (TCFD): الحوكمة، الاستراتيجية، إدارة المخاطر، والمقاييس والأهداف.
    • يتطلب الإفصاح عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (النطاقات 1 و 2 و 3، مع توفير تسهيلات انتقالية للنطاق 3).
    • يتطلب استخدام تحليل السيناريوهات لتقييم مرونة استراتيجية الشركة تجاه المخاطر المتعلقة بالمناخ.

يسري كلا المعيارين للفترات السنوية التي تبدأ في أو بعد 1 يناير 2024، مع السماح بالتطبيق المبكر شريطة تطبيق كلا المعيارين معًا.

أهمية وتأثير تأسيس المجلس ومعاييره:

يمثل تأسيس مجلس معايير الاستدامة الدولية وإصدار معاييره الأولى نقطة تحول في مشهد إعداد تقارير الشركات. من المتوقع أن يكون لهذه الخطوة تأثيرات واسعة النطاق:

  • تحسين قابلية المقارنة والاتساق: ستساعد المعايير العالمية على تقليل "حساء الأبجدية" من الأطر والمعايير المختلفة، مما يسهل على المستثمرين مقارنة أداء الاستدامة بين الشركات والقطاعات المختلفة.
  • تعزيز الشفافية: ستوفر الإفصاحات الأكثر توحيدًا وشمولية رؤية أوضح للمخاطر والفرص المتعلقة بالاستدامة التي تواجهها الشركات.
  • تسهيل اتخاذ القرارات الاستثمارية: ستمكن المعلومات المحسنة المستثمرين من دمج اعتبارات الاستدامة بشكل أفضل في تحليلاتهم وقراراتهم الاستثمارية.
  • مكافحة "الغسل الأخضر" (Greenwashing): ستساهم المعايير الموحدة في الحد من الممارسات المضللة من خلال توفير إطار أكثر صرامة للإفصاح.
  • دفع عجلة التنمية المستدامة: من خلال تسليط الضوء على أداء الاستدامة، ستشجع المعايير الشركات على تبني ممارسات أكثر استدامة ومسؤولية.
  • دعم أسواق رأس المال: ستؤدي زيادة الثقة في معلومات الاستدامة إلى أسواق رأس مال أكثر كفاءة واستقرارًا.

التحديات والاعتبارات المستقبلية:

على الرغم من الترحيب الواسع بتأسيس المجلس ومعاييره، هناك بعض التحديات التي يجب معالجتها لضمان نجاح هذه المبادرة:

  • تبني المعايير عالميًا: يعتمد نجاح المجلس على مدى تبني الولايات القضائية المختلفة لهذه المعايير.
  • جودة البيانات وتوافرها: لا تزال هناك تحديات تتعلق بجمع بيانات استدامة دقيقة وموثوقة، خاصة فيما يتعلق بسلاسل القيمة المعقدة.
  • بناء القدرات: ستحتاج الشركات، وخاصة الصغيرة والمتوسطة، إلى تطوير قدراتها لفهم وتطبيق هذه المعايير الجديدة.
  • تكلفة التنفيذ: قد يمثل تطبيق المعايير الجديدة عبئًا تكاليفيًا على بعض الشركات في البداية.
  • التطور المستمر: مجال الاستدامة ديناميكي، وسيحتاج المجلس إلى تحديث وتطوير معاييره باستمرار لمواكبة القضايا الناشئة.

الخلاصة:

يمثل تأسيس مجلس معايير الاستدامة الدولية (ISSB) تطورًا بالغ الأهمية في مسيرة تعزيز الشفافية والمساءلة في ممارسات الاستدامة للشركات. من خلال توفير لغة عالمية مشتركة للإفصاح عن الاستدامة، يهدف المجلس إلى تمكين المستثمرين من اتخاذ قرارات أفضل، ومساعدة الشركات على إدارة المخاطر والفرص المتعلقة بالاستدامة بشكل أكثر فعالية، وفي نهاية المطاف، المساهمة في بناء اقتصاد عالمي أكثر استدامة ومرونة. ومع بدء تطبيق المعيارين IFRS S1 و IFRS S2، يترقب العالم التأثير الإيجابي لهذه الخطوة على أسواق رأس المال والممارسات التجارية العالمية.

الخميس، 8 مايو 2025

مستودع جبل يوكا للنفايات النووية: ملحمة علمية وسياسية لم تنته فصولها

 مستودع جبل يوكا للنفايات النووية: ملحمة علمية وسياسية لم تنته فصولها

يُعد مشروع مستودع جبل يوكا للنفايات النووية في ولاية نيفادا الأمريكية واحدًا من أكثر المشاريع الهندسية والبيئية إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة. كان الهدف منه توفير حل دائم وآمن للتخلص من النفايات المشعة عالية المستوى والوقود النووي المستهلك الناتج عن محطات الطاقة النووية والأنشطة الدفاعية في البلاد. لكن المشروع واجه عقودًا من المعارضة الشرسة والتحديات العلمية والسياسية، ليظل مصيره معلقًا حتى يومنا هذا.

الحاجة إلى حل دائم: معضلة النفايات النووية

مع تطور صناعة الطاقة النووية وتراكم النفايات المشعة الخطرة التي تظل نشطة لآلاف السنين، برزت الحاجة الملحة لإيجاد طريقة آمنة لعزل هذه المواد عن البيئة والبشر على المدى الطويل جدًا. في عام 1957، أوصت الأكاديمية الوطنية للعلوم بأن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي التخلص من النفايات في تكوينات صخرية عميقة ومستقرة تحت الأرض، وهو ما يُعرف بالمستودعات الجيولوجية العميقة.

جبل يوكا: الموقع المختار والمثير للجدل

يقع جبل يوكا في منطقة نائية وصحراوية بمقاطعة ناي، جنوب ولاية نيفادا، على بعد حوالي 130 كيلومترًا شمال غرب مدينة لاس فيغاس. يقع الموقع ضمن أراضي مملوكة للحكومة الفيدرالية، بالقرب من موقع نيفادا للتجارب النووية السابق.1

بدأت وزارة الطاقة الأمريكية (DOE) دراسة جبل يوكا في عام 1978. وفي عام 1982، أصدر الكونغرس قانون سياسة النفايات النووية (Nuclear Waste Policy Act)، الذي وضع إطارًا لاختيار وتطوير موقع لمستودع جيولوجي. وفي تعديل مثير للجدل للقانون عام 1987، وجه الكونغرس وزارة الطاقة للتركيز حصريًا على دراسة جبل يوكا كموقع وحيد محتمل، مما أثار غضب ولاية نيفادا التي شعرت بأنها مستهدفة بشكل غير عادل.

تم اختيار الموقع لعدة أسباب مفترضة، منها:

  • المناخ الجاف: تتمتع المنطقة بمعدل هطول أمطار منخفض جدًا، مما يقلل من احتمالية تسرب المياه وتآكل حاويات النفايات.
  • العمق الجيولوجي: كان من المخطط تخزين النفايات في أنفاق محفورة على عمق حوالي 300 متر (1000 قدم) تحت سطح الجبل، وحوالي 300 متر فوق منسوب المياه الجوفية.
  • نوع الصخور: يتكون الجبل بشكل أساسي من طبقات سميكة من "التوف" البركاني المتصلب، والذي كان يُعتقد أنه يوفر حاجزًا طبيعيًا مناسبًا.
  • الملكية الفيدرالية والموقع النائي: كون الموقع مملوكًا للحكومة الفيدرالية وبعيدًا عن الكثافة السكانية كان يُنظر إليه كميزة.

التصميم الهندسي: حواجز متعددة للعزل

كان تصميم مستودع جبل يوكا يعتمد على نظام متعدد الحواجز لضمان عزل النفايات المشعة لآلاف السنين:

  • حاويات النفايات: وضع الوقود النووي المستهلك والنفايات عالية الإشعاع في حاويات متينة ومقاومة للتآكل مصنوعة من سبائك معدنية خاصة.
  • الدروع الواقية (Drip Shields): تغطية حاويات النفايات بدروع واقية من التيتانيوم لمنع أي مياه قد تتسرب من الوصول إليها.2
  • الأنفاق الصخرية: وضع الحاويات داخل شبكة واسعة من الأنفاق المحفورة في عمق الجبل.
  • الحاجز الجيولوجي الطبيعي: الاعتماد على طبقات صخور التوف المحيطة لتوفير عزل إضافي وإبطاء أي حركة محتملة للمواد المشعة.

كان من المخطط أن يستوعب المستودع حوالي 70,000 طن متري من النفايات النووية.

عقود من المعارضة والتحديات:

واجه مشروع جبل يوكا معارضة شديدة ومنظمة منذ البداية، قادتها ولاية نيفادا وشملت العديد من الأطراف الأخرى:

  • معارضة ولاية نيفادا: اعترضت حكومة ولاية نيفادا بشدة على المشروع، معتبرة إياه تهديدًا لصحة وسلامة سكانها وبيئتها واقتصادها (خاصة قطاع السياحة في لاس فيغاس). رفعت الولاية العديد من الدعاوى القضائية وتحدت المشروع على أسس علمية وقانونية.
  • المخاوف البيئية: أثيرت مخاوف جدية بشأن:
    • تلوث المياه الجوفية: احتمالية تسرب المواد المشعة إلى طبقة المياه الجوفية العميقة تحت الجبل على مدى آلاف السنين.
    • النشاط الزلزالي والبركاني: يقع جبل يوكا في منطقة نشطة زلزاليًا، مع وجود فوالق قريبة، كما توجد أدلة على نشاط بركاني حديث نسبيًا في المنطقة المحيطة. أثارت هذه العوامل تساؤلات حول استقرار الموقع على المدى الطويل.
    • أداء الحواجز الهندسية: شكوك حول قدرة الحواجز الهندسية على الصمود ومقاومة التآكل لعشرات الآلاف من السنين المطلوبة لعزل النفايات.
  • مخاطر النقل: كان نقل كميات هائلة من النفايات المشعة عالية الخطورة عبر العديد من الولايات (حوالي 45 ولاية) باستخدام الشاحنات والقطارات إلى موقع المستودع مصدر قلق كبير للمجتمعات الواقعة على طول طرق النقل المقترحة، خوفًا من الحوادث أو الهجمات الإرهابية.
  • مخاوف الأمريكيين الأصليين: تعتبر أراضي جبل يوكا والمناطق المحيطة بها مقدسة للعديد من قبائل الأمريكيين الأصليين، بما في ذلك قبائل الشوشون الغربية وبايوت الجنوبية. اعترضوا على المشروع باعتباره انتهاكًا لأراضيهم الروحية والثقافية.
  • الجدل العلمي والتقني: استمر النقاش العلمي حول مدى ملاءمة الموقع، ودقة النماذج الجيولوجية والهيدرولوجية، والقدرة على التنبؤ بأداء المستودع على مدى فترات زمنية جيولوجية.

التطورات السياسية وتقلبات التمويل:

شهد مشروع جبل يوكا تقلبات سياسية كبيرة على مدى العقود:

  • فترات دعم وتطوير: حظي المشروع بدعم من بعض الإدارات الرئاسية والكونغرس، وتم إنفاق مليارات الدولارات على دراسة الموقع وتطويره، بما في ذلك حفر نفق استكشافي رئيسي.
  • وقف التمويل وتعليق المشروع: في عام 2010، وتحت إدارة الرئيس باراك أوباما، تم سحب طلب ترخيص المستودع من هيئة التنظيم النووي الأمريكية (NRC) وتم قطع التمويل الفيدرالي المخصص للمشروع بشكل كبير، مما أدى فعليًا إلى تعليقه. جاء هذا القرار استجابة للمعارضة القوية ولتوصيات لجنة الشريط الأزرق لمستقبل أمريكا النووي (Blue Ribbon Commission on America's Nuclear Future) التي دعت إلى نهج جديد قائم على الموافقة لإيجاد مواقع لمرافق إدارة النفايات النووية.
  • محاولات الإحياء: جرت عدة محاولات في الكونغرس وفي بعض الإدارات اللاحقة لإحياء المشروع وتوفير التمويل اللازم لاستكمال عملية الترخيص، لكنها واجهت معارضة مستمرة من وفد نيفادا في الكونغرس.

الوضع الحالي (مايو 2025): المشروع في حالة جمود

حتى مايو 2025، يظل مشروع مستودع جبل يوكا في حالة جمود. لم يتم إلغاؤه رسميًا بموجب القانون، لكنه لا يتلقى تمويلًا كبيرًا يسمح باستئناف العمل فيه أو استكمال عملية الترخيص. الموقع يخضع لأعمال صيانة محدودة.

تستمر الولايات المتحدة في مواجهة تحدي التخلص من النفايات النووية. في غياب مستودع دائم، يتم تخزين الوقود النووي المستهلك والنفايات عالية الإشعاع مؤقتًا في مواقع محطات الطاقة النووية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، وهو حل يعتبره الكثيرون غير مستدام على المدى الطويل. تركز السياسة الحالية بشكل متزايد على البحث عن حلول قائمة على الموافقة (consent-based siting) لتطوير مرافق تخزين مؤقت مركزية ومستودعات دائمة، مما يعني إشراك المجتمعات المحلية والولايات في عملية اختيار المواقع.

الاستثمار المالي: مليارات بلا عائد

تُقدر الأموال التي تم إنفاقها على دراسة وتطوير مشروع جبل يوكا منذ بدايته بمليارات الدولارات (تشير بعض التقديرات إلى أكثر من 10-15 مليار دولار). ارتفعت التقديرات الإجمالية لتكلفة دورة حياة المشروع (بما في ذلك البناء والتشغيل والإغلاق) إلى ما يقرب من 100 مليار دولار.

النظرة المستقبلية: طريق مسدود أم تحول في السياسة؟

تبدو فرص إحياء مشروع جبل يوكا في صورته الأصلية ضئيلة في ظل المعارضة السياسية والشعبية القوية والمستمرة من ولاية نيفادا، بالإضافة إلى التحديات العلمية التي لم يتم حسمها بشكل كامل. يتجه التركيز حاليًا نحو تطوير بدائل تشمل:

  • التخزين المؤقت الموحد: إنشاء مرافق مركزية لتخزين الوقود النووي المستهلك بشكل مؤقت وآمن حتى يتم تطوير حل دائم.
  • البحث عن مواقع بديلة قائمة على الموافقة: اتباع نهج جديد يتضمن مشاركة المجتمعات المحلية والولايات في اختيار مواقع جديدة للمستودعات الدائمة، مع توفير حوافز اقتصادية.
  • تقنيات إعادة المعالجة المتقدمة: استكشاف تقنيات جديدة لإعادة معالجة الوقود النووي المستهلك لتقليل حجم النفايات واستخلاص المواد القابلة للاستخدام.

الدروس المستفادة: تقاطع العلم والسياسة والمجتمع

تقدم ملحمة جبل يوكا دروسًا قيمة حول التحديات المعقدة التي تواجه المشاريع الكبرى المثيرة للجدل، خاصة تلك المتعلقة بالبيئة والصحة العامة على المدى الطويل. من أبرز هذه الدروس:

  • أهمية الموافقة المجتمعية: لا يمكن فرض مشاريع بهذه الحساسية على المجتمعات والولايات دون موافقتها ومشاركتها الفعالة.
  • تحديات التنبؤ طويل الأجل: صعوبة إثبات سلامة وأمان المرافق المصممة لآلاف السنين بشكل قاطع علميًا.
  • تأثير السياسة على العلم: كيف يمكن للعوامل السياسية أن تؤثر على تمويل وتوجيه وتقييم المشاريع العلمية الكبرى.
  • الحاجة إلى الشفافية والثقة: أهمية بناء الثقة بين الحكومة والمؤسسات العلمية والجمهور في إدارة القضايا المعقدة مثل النفايات النووية.

خاتمة

يظل مستودع جبل يوكا للنفايات النووية مشروعًا غير مكتمل وفصلاً طويلًا ومكلفًا في تاريخ إدارة النفايات النووية في الولايات المتحدة. قصته هي تذكير دائم بأن الحلول التقنية وحدها لا تكفي، وأن القضايا التي تمس البيئة والصحة العامة والأجيال القادمة تتطلب توافقًا واسعًا وحوارًا شفافًا بين العلم والسياسة والمجتمع.

مدينة الغابة، ماليزيا: حلم المدينة الذكية الخضراء الذي يواجه واقعًا معقدًا

 مدينة الغابة، ماليزيا: حلم المدينة الذكية الخضراء الذي يواجه واقعًا معقدًا

تُعد "مدينة الغابة" (Forest City) في ولاية جوهور الماليزية، بالقرب من سنغافورة، أحد أضخم مشاريع التطوير العقاري وأكثرها طموحًا وجدلاً في جنوب شرق آسيا. تم تسويقها كمدينة مستقبلية ذكية وخضراء، باستثمارات تقدر بحوالي 100 مليار دولار أمريكي، إلا أنها واجهت تحديات هائلة أدت إلى وصفها في كثير من الأحيان بـ "مدينة الأشباح".

الرؤية الطموحة: مدينة المستقبل البيئية

أُعلن عن مشروع مدينة الغابة لأول مرة في عام 2006، وتم إطلاقه رسميًا في عام 2016. الرؤية كانت بناء مدينة حديثة متكاملة على أربع جزر اصطناعية يتم استصلاحها من البحر في مضيق جوهور. كان من المخطط أن تستوعب المدينة حوالي 700,000 نسمة بحلول عام 2035.

تم تصميم "مدينة الغابة" لتكون نموذجًا للمدينة البيئية الذكية، مع تركيز كبير على المساحات الخضراء العمودية (تغطية واجهات المباني بالنباتات)، واستخدام التكنولوجيا الذكية في إدارة الموارد والبنية التحتية، وتوفير بيئة معيشية وعمل فاخرة. استهدف المشروع بشكل أساسي المشترين من الطبقة المتوسطة العليا من الصين، الذين يبحثون عن استثمارات عقارية في الخارج أو منازل لقضاء العطلات.

المطور والاستثمار: عملاق صيني وشراكة محلية

يقف وراء هذا المشروع الضخم شركة التطوير العقاري الصينية العملاقة "كانتري جاردن" (Country Garden)، من خلال مشروع مشترك مع شركة "إسبلاناد دانغا 88" (Esplanade Danga 88)، وهي كيان مرتبط بحكومة ولاية جوهور والسلطان. تمتلك "كانتري جاردن" الحصة الأكبر في هذا المشروع.

الموقع والحجم: على مرمى حجر من سنغافورة

تقع "مدينة الغابة" في منطقة إسكندر للتنمية الاقتصادية الخاصة في جوهور، على الطرف الجنوبي لشبه جزيرة ماليزيا، وتفصلها مسافة قصيرة جدًا (حوالي 2 كيلومتر بخط مستقيم) عن سنغافورة. هذا الموقع الاستراتيجي كان يُنظر إليه كعامل جذب رئيسي. يمتد المشروع على مساحة إجمالية مخطط لها تبلغ حوالي 30 كيلومترًا مربعًا (ما يعادل تقريبًا مساحة ماكاو)، مقسمة على أربع جزر اصطناعية.

التحديات والجدل: من الأحلام إلى الواقع الصعب

على الرغم من البداية الواعدة، واجهت "مدينة الغابة" سلسلة من التحديات والخلافات الكبيرة التي أثرت بشكل كبير على تقدمها وجدواها:

  • المخاوف البيئية: أثار مشروع استصلاح الأراضي الشاسع لبناء الجزر الاصطناعية قلقًا كبيرًا بشأن تأثيره المدمر على النظم البيئية البحرية الحساسة في مضيق جوهور. تضمنت هذه المخاوف تدمير مناطق الأعشاب البحرية (مثل مرج تانجونج كومانج، الأكبر في ماليزيا) وغابات المانجروف (مثل محمية نهر بولاي للمانجروف، وهي منطقة رامسار ذات أهمية دولية)، مما أثر على التنوع البيولوجي وسبل عيش الصيادين المحليين.
  • الجدوى الاقتصادية والاستدامة (وصف "مدينة الأشباح"): على الرغم من اكتمال جزء كبير من البنية التحتية والوحدات السكنية على الجزيرة الأولى، ظل معدل الإشغال منخفضًا للغاية. بحلول أواخر عام 2023 / أوائل 2024، كان عدد السكان الفعليين يقدر ببضعة آلاف فقط (حوالي 8,000 إلى 9,000 شخص)، وهو رقم ضئيل جدًا مقارنة بالهدف البالغ 700,000 نسمة. أدى هذا الفراغ إلى إطلاق وصف "مدينة الأشباح" على المشروع. كما واجهت شركة "كانتري جاردن" نفسها صعوبات مالية كبيرة وديونًا ضخمة في الصين، مما ألقى بظلال من الشك على قدرتها على إكمال المشروع الضخم.
  • القضايا السياسية والسياسات الحكومية: أثار المشروع جدلاً سياسيًا في ماليزيا. خلال فترة رئاسة الوزراء السابقة لمهاتير محمد (الذي عاد للسلطة في 2018)، تم التعبير عن مخاوف بشأن بيع الأراضي للأجانب وتأثير الاستثمارات الصينية الكبيرة. فرضت الحكومة الماليزية قيودًا وتغييرات على برامج التأشيرات طويلة الأجل مثل برنامج "ماليزيا بيتي الثاني" (MM2H)، مما أثر على المشترين الأجانب المستهدفين. كما أدت القيود التي فرضتها الحكومة الصينية على خروج رؤوس الأموال إلى تباطؤ مبيعات العقارات للمواطنين الصينيين.
  • تأثير جائحة كوفيد-19: أدت الجائحة والقيود على السفر الدولي إلى تفاقم المشاكل، حيث توقفت المبيعات بشكل كبير وتأخرت أعمال البناء.
  • الاتصال والبنية التحتية: على الرغم من قربها الجغرافي من سنغافورة، فإن الوصول الفعلي وسهولة التنقل اليومي لا يزالان يمثلان تحديًا.

الوضع الحالي (مايو 2025) ومحاولات الإنعاش

في محاولة لإنقاذ المشروع المتعثر، اتخذت الحكومة الماليزية الحالية بقيادة رئيس الوزراء أنور إبراهيم عدة خطوات. في أغسطس 2023، أُعلن عن تصنيف "مدينة الغابة" كـ "منطقة مالية خاصة" (Special Financial Zone - SFZ). يهدف هذا التصنيف إلى جذب الاستثمارات العالمية، خاصة في مجالات الخدمات المالية والتكنولوجيا المالية، من خلال تقديم حوافز ضريبية (مثل معدلات ضريبة دخل خاصة للموظفين المؤهلين تصل إلى 15%، وإعفاءات ضريبية للشركات في قطاعات معينة)، وتسهيلات في إجراءات التأشيرات.

في يوليو 2024، أقر البرلمان الماليزي مشاريع قوانين لجعل الجزيرة الأولى من "مدينة الغابة" جزيرة معفاة من الرسوم الجمركية. هذه الخطوات تأتي في إطار جهود أوسع لدمج "مدينة الغابة" في المنطقة الاقتصادية الخاصة بين جوهور وسنغافورة (Johor-Singapore Special Economic Zone - JS-SEZ).

تشير بعض التقارير الحديثة (أوائل 2025) إلى أن هذه الحوافز بدأت تظهر بعض التأثيرات الإيجابية الأولية، مثل زيادة في مبيعات المساحات المكتبية. ومع ذلك، لا يزال فائض المعروض من الوحدات السكنية يمثل تحديًا كبيرًا.

النظرة المستقبلية: بين الأمل والحذر

مستقبل "مدينة الغابة" لا يزال غير مؤكد إلى حد كبير. تعتمد قدرتها على التعافي على نجاح مبادرة المنطقة المالية الخاصة في جذب استثمارات حقيقية ومستدامة، وعلى قدرة المطور على تجاوز الصعوبات المالية، وعلى تحسن ظروف السوق العقاري بشكل عام.

تُعتبر "مدينة الغابة" بمثابة دراسة حالة معقدة حول مخاطر وطموحات المشاريع العقارية العملاقة، وأهمية التخطيط الواقعي، ومراعاة العوامل البيئية والاجتماعية والسياسية. هل ستتمكن من التحول من "مدينة أشباح" إلى مركز مالي واقتصادي مزدهر، أم ستبقى نصبًا تذكاريًا لطموحات تجاوزت الواقع؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة.

الخلاصة

"مدينة الغابة" في ماليزيا هي مشروع ضخم يجسد تقاطع الأحلام الكبرى بالاستدامة والتكنولوجيا مع التحديات الواقعية للسوق والسياسة والبيئة. بينما تسعى الجهود الحكومية الجديدة لضخ حياة جديدة في المشروع من خلال تحويله إلى منطقة مالية خاصة، يظل الطريق أمامها طويلاً ومليئًا بالتحديات. قصتها تقدم دروسًا قيمة للمطورين والمخططين الحضريين والحكومات في جميع أنحاء العالم.

مطار ثيوداد ريال المركزي: من حلم الطيران إلى "مطار الأشباح" الأشهر في إسبانيا

مطار ثيوداد ريال المركزي: من حلم الطيران إلى "مطار الأشباح" الأشهر في إسبانيا

يُعد مطار ثيوداد ريال المركزي (Ciudad Real Central Airport)، الذي كان يُعرف سابقًا باسم مطار دون كيخوتي (Don Quijote Airport)، أحد أبرز الأمثلة في إسبانيا وربما في أوروبا على مشاريع البنية التحتية الطموحة التي تحولت إلى ما يُعرف بـ "مشاريع الأفيال البيضاء" أو "مطارات الأشباح". قصته هي مزيج من الأحلام الكبيرة، والاستثمارات الضخمة، والتوقيت السيء، ليصبح رمزًا لحقبة الازدهار والانكماش الاقتصادي التي مرت بها إسبانيا.

الحلم والرؤية: بديل لمدريد ومركز لوجستي

كانت الرؤية وراء إنشاء مطار ثيوداد ريال المركزي طموحة للغاية. تم تصميمه ليكون بمثابة مطار دولي بديل يخفف الضغط عن مطار مدريد-باراخاس الدولي المزدحم، والذي يقع على بعد حوالي 200 كيلومتر شمالًا. لم يقتصر الطموح على استقبال رحلات الركاب، بل امتد ليشمل تطويره كمركز رئيسي للشحن الجوي، مستفيدًا من موقعه في وسط إسبانيا. كما كان هناك أمل في أن يجذب شركات الطيران منخفضة التكلفة.

تميز المطار ببنية تحتية مثيرة للإعجاب، بما في ذلك مدرج يُعد من بين الأطول في أوروبا بطول 4100 متر، مما يسمح له باستقبال أكبر طائرات الركاب والشحن، بما في ذلك طائرة إيرباص A380. كما تم تصميم مبنى الركاب ليستوعب ما يصل إلى 10 ملايين مسافر سنويًا، مع مرافق شحن قادرة على التعامل مع آلاف الأطنان من البضائع. وكان جزء من الخطة الطموحة ربط المطار بشبكة قطارات AVE عالية السرعة القريبة، مما يقلل زمن الرحلة إلى مدريد ومدن إسبانية كبرى أخرى، إلا أن هذا الربط الحيوي لم يتم تنفيذه بالكامل.

استثمار ضخم وعمر تشغيلي قصير

بدأ بناء المطار في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، خلال فترة ازدهار قطاع البناء في إسبانيا. تم اعتباره أول مطار دولي خاص في البلاد، وضخ فيه استثمارات هائلة تقدر بأكثر من مليار يورو (حوالي 1.1 مليار دولار أمريكي).

افتُتح المطار رسميًا في عام 2009، وسط آمال كبيرة. ومع ذلك، كانت فترة تشغيله التجاري قصيرة للغاية ومخيبة للآمال. لم يتمكن المطار من جذب سوى عدد قليل جدًا من شركات الطيران، مثل رايان إير (Ryanair) وفيولينغ (Vueling)، وبعض الرحلات العارضة لشركات أخرى مثل إير برلين وإير نوستروم. كانت أعداد الركاب منخفضة بشكل كارثي، ولم تقترب أبدًا من الأهداف المتوقعة.

الطريق إلى الفشل: أسباب متعددة

تضافرت عدة عوامل أدت إلى الانهيار السريع لمطار ثيوداد ريال المركزي:

  • الأزمة المالية العالمية: تزامن افتتاح المطار مع بداية الأزمة المالية العالمية في عام 2008، والتي ضربت الاقتصاد الإسباني بشدة، مما أدى إلى انخفاض حاد في السفر الجوي والنشاط الاقتصادي بشكل عام.
  • نقص الطلب وسوء التقدير: كان هناك سوء تقدير كبير لحجم الطلب الفعلي على السفر والشحن الجوي عبر المطار. المنافسة الشرسة من مطار مدريد-باراخاس، الذي قام بتوسعات كبيرة في نفس الفترة تقريبًا، جعلت من الصعب على مطار جديد وبعيد نسبيًا جذب شركات الطيران والركاب.
  • الموقع والربط: أثبت موقع المطار، على الرغم من كونه "مركزيًا" جغرافيًا، أنه غير جذاب. بُعده عن المراكز السكانية الكبرى، وفشل ربطه بشكل فعال بشبكة القطارات عالية السرعة، جعله خيارًا غير مريح للمسافرين. كانت الرحلة البرية إلى مدريد تستغرق حوالي ساعتين.
  • المشاكل المالية والإفلاس: مع تراجع الإيرادات وتراكم الديون، واجهت الشركة المشغلة للمطار صعوبات مالية متزايدة. بحلول عام 2010، أُعلن إفلاس المطار، وتوقفت جميع العمليات التجارية بشكل كامل في أبريل 2012.

الإغلاق ولقب "مطار الأشباح"

بعد إغلاقه في عام 2012، تحول مطار ثيوداد ريال المركزي بسرعة إلى "مطار أشباح" بكل معنى الكلمة. المباني الحديثة والمدرج الطويل أصبحت مهجورة وفارغة، تقف كشاهد صامت على حلم لم يتحقق. أصبح المطار موضوعًا للتقارير الإعلامية العالمية التي تسلط الضوء على مشاريع البنية التحتية الفاشلة في إسبانيا خلال فترة الأزمة.

محاولات البيع والإحياء الباهتة

على مر السنين، جرت عدة محاولات لبيع المطار. طُرح في مزادات علنية بأسعار تبدأ من 100 مليون يورو، وهو جزء ضئيل من تكلفة بنائه، ولكن لم يتقدم مستثمرون جادون في البداية. في إحدى المراحل المثيرة للسخرية، عرضت مجموعة استثمارية صينية شراء المطار بمبلغ رمزي قدره 10,000 يورو فقط، وهو عرض رفضته المحكمة الإسبانية.

أخيرًا، في عام 2018، تم بيع المطار لشركة (CR International Airport SL) مقابل حوالي 56.2 مليون يورو. أُعيد فتح المدرج والمطار في سبتمبر 2019، ولكن ليس لرحلات الركاب التجارية المجدولة. بدلاً من ذلك، وجد المطار استخدامات محدودة ومختلفة عن رؤيته الأصلية:

  • تخزين وصيانة الطائرات: خلال جائحة كوفيد-19، ومع توقف حركة الطيران العالمية، استُخدم المطار كموقف لتخزين الطائرات التي لم تجد مكانًا آخر. كما استقطب بعض شركات صيانة وتفكيك الطائرات.
  • موقع تصوير: بفضل مرافقه الحديثة والمهجورة، أصبح المطار موقعًا جذابًا لتصوير الأفلام والبرامج التلفزيونية والإعلانات التجارية. من أبرزها فيلم للمخرج الإسباني بيدرو ألمودوبار، وحلقة من برنامج "توب جير" البريطاني الشهير، وإعلان لشركة فولفو للشاحنات.
  • طيران خاص وتدريب: استُخدم المطار بشكل متقطع لرحلات الطيران الخاصة ولأغراض تدريب الطيارين.

الوضع الحالي (مايو 2025) والدروس المستفادة

حتى أوائل عام 2025، لا يزال مطار ثيوداد ريال المركزي بعيدًا كل البعد عن تحقيق الهدف الذي بُني من أجله. على الرغم من بعض الأنشطة المحدودة في مجال الصيانة والتخزين، فإنه يظل غير مستغل إلى حد كبير كمرفق ركاب أو شحن حيوي. في عام 2024، ورد أن الحكومة الإسبانية نظرت لفترة وجيزة في تحويله إلى مركز استقبال للمهاجرين، لكن الخطة تم التخلي عنها بسرعة بسبب معارضة محلية قوية.

قصة مطار ثيوداد ريال المركزي هي قصة رمزية تحمل العديد من الدروس:

  • مخاطر الطموح المفرط: تُظهر كيف يمكن للمشاريع العملاقة، إذا لم تستند إلى دراسات جدوى واقعية وتقييم دقيق للطلب، أن تتحول إلى عبء مالي.
  • تأثير الفقاعات الاقتصادية: يعكس المطار بشكل واضح عواقب طفرات البناء غير المستدامة التي يمكن أن تؤدي إلى استثمارات غير مدروسة.
  • أهمية الموقع والربط: تؤكد على أن البنية التحتية الممتازة وحدها لا تكفي إذا لم تكن مدعومة بموقع استراتيجي وسهولة وصول فعالة.
  • تصميم تجربة العميل: فشل المطار في فهم احتياجات وسلوكيات العملاء الرئيسيين (شركات الطيران والمسافرين) كان عاملاً حاسماً في عدم نجاحه.

خاتمة: نصب تذكاري لطموح مكلف

مطار ثيوداد ريال المركزي، الذي كان يُحلم به كبوابة جديدة لإسبانيا ومركز اقتصادي مزدهر، يقف اليوم كأحد أشهر "مطارات الأشباح" في العالم. إنه تذكير صارخ بأن الأحلام الكبيرة في عالم البنية التحتية يجب أن تُبنى على أسس صلبة من الواقعية الاقتصادية والتخطيط الدقيق، وإلا فإنها قد تتحول إلى مجرد آثار باهظة الثمن لطموحات لم تكتمل.