السبت، 10 مايو 2025

مصادم الهادرونات فائق التوصيل (SSC): حلم الفيزياء الضخم الذي تبدد

مصادم الهادرونات فائق التوصيل (SSC): حلم الفيزياء الضخم الذي تبدد

كان مشروع "مصادم الهادرونات فائق التوصيل" (Superconducting Super Collider - SSC)، المعروف أيضًا بلقب "ديزرترون" (Desertron)، طموحًا علميًا هائلاً يهدف إلى بناء أكبر وأقوى مسرّع جسيمات في العالم.1 كان من المفترض أن يفتح آفاقًا جديدة في فهمنا للكون والمادة، ولكنه تحول إلى واحد من أكثر المشاريع العلمية تكلفة وإثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة، لينتهي به المطاف إلى الإلغاء بعد إنفاق مليارات الدولارات.

الهدف العلمي: سبر أغوار المادة والطاقة

كان الهدف الأساسي من بناء مصادم الهادرونات فائق التوصيل هو استكشاف الأسئلة الأساسية في فيزياء الجسيمات، والتعمق في فهم اللبنات الأساسية للمادة والقوى التي تحكمها. كان العلماء يأملون أن يمكنهم المصادم من:

  • اكتشاف بوزون هيغز: كان البحث عن بوزون هيغز، الجسيم المسؤول عن منح الجسيمات الأخرى كتلتها وفقًا للنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، أحد الأهداف الرئيسية. في ذلك الوقت، كان وجود بوزون هيغز مجرد افتراض نظري. (لاحقًا، تم اكتشاف بوزون هيغز في عام 2012 في مصادم الهادرونات الكبير (LHC) في سيرن بسويسرا).
  • استكشاف فيزياء ما وراء النموذج القياسي: كان من المؤمل أن يكشف المصادم عن جسيمات وقوى جديدة تتجاوز ما يصفه النموذج القياسي، مثل جسيمات التناظر الفائق (supersymmetry)، والمساعدة في فهم المادة المظلمة والطاقة المظلمة.
  • محاكاة ظروف الانفجار العظيم: كان من شأن الطاقات الهائلة التي يولدها المصادم أن تسمح للعلماء بمحاكاة الظروف التي سادت في اللحظات الأولى بعد الانفجار العظيم، مما يوفر نظرة أعمق على نشأة الكون.

الموقع: في صحراء تكساس الشاسعة

بعد عملية اختيار تنافست فيها عدة ولايات، تم اختيار موقع بالقرب من مدينة واكساهاشي (Waxahachie) في ولاية تكساس لبناء المصادم. تم اختيار هذا الموقع لعدة أسباب، منها:

  • الاستقرار الجيولوجي: اعتبرت المنطقة مناسبة من الناحية الجيولوجية لحفر الأنفاق الضخمة.
  • توفر الأراضي: الحاجة إلى مساحات واسعة من الأراضي لبناء الحلقة والمرافق المرتبطة بها.
  • الدعم المحلي والسياسي: قدمت ولاية تكساس حوافز ودعمًا كبيرًا لاستضافة المشروع.

التصميم والمواصفات: عملاق فيزيائي

كان تصميم المصادم مذهلاً في حجمه وطاقته المخطط لها:

  • محيط الحلقة: كان من المخطط أن يبلغ محيط الحلقة الرئيسية للمصادم حوالي 87.1 كيلومترًا (54.1 ميلًا)، وهو أكبر بكثير من أي مسرع جسيمات تم بناؤه من قبل أو بعده حتى الآن (مصادم الهادرونات الكبير في سيرن يبلغ محيطه 27 كيلومترًا).2
  • طاقة التصادم: كان المصادم مصممًا لتسريع حزمتين من البروتونات في اتجاهين متعاكسين داخل الحلقة، وتصادمهما بطاقة هائلة تبلغ 20 تيرا إلكترون فولت (TeV) لكل حزمة، أي طاقة تصادم إجمالية تبلغ 40 تيرا إلكترون فولت. هذه الطاقة كانت ستفوق بكثير طاقة أي مصادم آخر.
  • المغناطيسات فائقة التوصيل: سبب تسميته "فائق التوصيل" يعود إلى اعتماده على آلاف المغناطيسات القوية فائقة التوصيل. هذه المغناطيسات، المبردة إلى درجات حرارة شديدة الانخفاض (قريبة من الصفر المطلق)، يمكنها توليد مجالات مغناطيسية قوية جدًا بأقل مقاومة كهربائية، وهو أمر ضروري لتوجيه حزم البروتونات عالية الطاقة بدقة حول الحلقة الضخمة.

التاريخ والجدول الزمني: من الحلم إلى بداية البناء

  • التصور والمقترح: بدأت فكرة المصادم في التبلور في أوائل الثمانينيات في مجتمع فيزياء الطاقة العالية في الولايات المتحدة.
  • الموافقة وبدء التمويل: حصل المشروع على موافقة ودعم من إدارة الرئيس رونالد ريغان في عام 1987.
  • اختيار الموقع وبدء البناء: تم اختيار موقع واكساهاشي في تكساس عام 1988، وبدأت أعمال البناء الفعلية في أوائل التسعينيات، بما في ذلك حفر أجزاء كبيرة من الأنفاق وبناء بعض المباني السطحية.

الإلغاء الصادم: نهاية مفاجئة لحلم علمي كبير

في أكتوبر 1993، بعد سنوات من العمل وإنفاق مليارات الدولارات، صوت الكونغرس الأمريكي على إلغاء مشروع مصادم الهادرونات فائق التوصيل. كان هذا القرار بمثابة صدمة كبيرة للمجتمع العلمي في الولايات المتحدة وحول العالم. تعددت الأسباب التي أدت إلى هذا القرار:

  • التكاليف المتصاعدة: ارتفعت التكلفة التقديرية للمشروع بشكل كبير من التقديرات الأولية. بدأت التقديرات الأولية بحوالي 4.4 مليار دولار في عام 1987، ولكن بحلول عام 1993، كانت التوقعات تشير إلى أن التكلفة الإجمالية قد تتجاوز 11-12 مليار دولار (ما يعادل أكثر من 20 مليار دولار بأسعار اليوم).
  • سوء الإدارة والميزانية: واجه المشروع اتهامات بسوء الإدارة وعدم كفاءة في التحكم في الميزانية والتكاليف.
  • المناخ السياسي المتغير: مع نهاية الحرب الباردة، تغيرت الأولويات السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة. زاد التركيز على خفض العجز في الميزانية، وأصبح تمويل المشاريع العلمية الضخمة أقل شعبية.
  • نقص الدعم الدولي: على عكس مصادم الهادرونات الكبير في سيرن، الذي هو مشروع تعاوني دولي، كان مصادم الهادرونات فائق التوصيل مشروعًا أمريكيًا في المقام الأول، مع مساهمات دولية محدودة نسبيًا.
  • المنافسة العلمية والأولويات: تساءل بعض العلماء والسياسيين عما إذا كان هذا الاستثمار الضخم في مشروع واحد هو أفضل استخدام للموارد المخصصة للبحث العلمي، خاصة مع وجود مشاريع علمية أخرى مهمة تتنافس على التمويل.

التكلفة: مليارات بلا عائد علمي مباشر

  • التكلفة الأولية المقدرة: حوالي 4.4 مليار دولار (في عام 1987).
  • التكلفة المتوقعة عند الإلغاء: تجاوزت 11 مليار دولار.
  • الأموال المنفقة قبل الإلغاء: تم إنفاق حوالي 2 مليار دولار على المشروع قبل إيقافه.

التقدم المحرز عند الإلغاء:

عندما تم إلغاء المشروع، كان العمل قد قطع شوطًا كبيرًا:

  • تم حفر حوالي 23.5 كيلومترًا (14.6 ميلًا) من الأنفاق، أي ما يقرب من ربع الطول الإجمالي المخطط له.
  • تم بناء العديد من المباني السطحية والمرافق.
  • تم تصنيع واختبار نماذج أولية للمغناطيسات فائقة التوصيل.

عواقب الإلغاء: صدمة وخيبة أمل

كان لإلغاء مصادم الهادرونات فائق التوصيل عواقب وخيمة:

  • تأثير على مجتمع فيزياء الطاقة العالية في الولايات المتحدة: شعر العديد من العلماء بخيبة أمل وإحباط كبيرين. أدى الإلغاء إلى فقدان الزخم في أبحاث فيزياء الطاقة العالية في الولايات المتحدة، وانتقل العديد من الفيزيائيين الأمريكيين للعمل في مختبرات أوروبية مثل سيرن.
  • فقدان الريادة الأمريكية: كان يُنظر إلى المشروع على أنه فرصة للولايات المتحدة للحفاظ على ريادتها العالمية في مجال فيزياء الجسيمات. أدى إلغاؤه إلى انتقال مركز الثقل في هذا المجال إلى أوروبا مع بناء مصادم الهادرونات الكبير.
  • مصير الموقع والبنية التحتية: تُركت الأنفاق المحفورة والمباني المبنية مهجورة لبعض الوقت. في وقت لاحق، تم بيع الموقع لمستثمرين من القطاع الخاص.

مقارنات مع مصادمات أخرى:

كان مصادم الهادرونات فائق التوصيل مصممًا ليكون أكبر وأقوى بكثير من مصادم الهادرونات الكبير (LHC) في سيرن، والذي بدأ العمل فيه لاحقًا وحقق اكتشافات هامة مثل بوزون هيغز. لو اكتمل مصادم الهادرونات فائق التوصيل، لربما تمكن من تحقيق هذه الاكتشافات في وقت أبكر وبطاقات أعلى.

الإرث والدروس المستفادة: عبرة في إدارة "العلوم الكبرى"

على الرغم من فشله في تحقيق أهدافه العلمية، ترك مشروع مصادم الهادرونات فائق التوصيل إرثًا ودروسًا مهمة:

  • إدارة المشاريع العلمية الضخمة: أكد المشروع على التحديات الهائلة التي تواجه إدارة وتمويل "العلوم الكبرى" (Big Science)، والحاجة إلى تخطيط دقيق وشفافية وإدارة فعالة للتكاليف والمخاطر.
  • أهمية الدعم السياسي المستدام: أظهر كيف يمكن للتغيرات في المناخ السياسي والأولويات الحكومية أن تؤثر بشكل كبير على مصير المشاريع العلمية طويلة الأمد.
  • التعاون الدولي: ربما لو كان المشروع قائمًا على نموذج تعاون دولي أوسع، لكانت فرص نجاحه أكبر.
  • نقطة تحول: يعتبر البعض إلغاء المشروع نقطة تحول في كيفية تمويل وإدارة مشاريع الفيزياء الأساسية في الولايات المتحدة.

الوضع الحالي للموقع (مايو 2025): استخدامات جديدة لأطلال الحلم العلمي

بعد إلغاء المشروع، تم إغلاق الأنفاق وتوقفت أعمال البناء. في وقت لاحق، تم شراء الموقع من قبل مجموعة استثمارية خاصة. حاليًا، تم تطوير جزء من الموقع ليصبح مركزًا صناعيًا وتكنولوجيًا يُعرف باسم "Gigapark" أو ما شابه، ويضم شركات ومرافق تخزين ومراكز بيانات، مستفيدًا من بعض البنية التحتية القائمة والأنفاق التي تم تحويلها لأغراض أخرى.

خاتمة: طموح علمي لم يكتمل

يظل مشروع مصادم الهادرونات فائق التوصيل قصة تحذيرية عن طموح علمي هائل واجه تحديات اقتصادية وسياسية أدت إلى نهايته المبكرة. ورغم أنه لم ير النور كمرفق بحثي، إلا أن قصته تقدم دروسًا قيمة حول تعقيدات السعي وراء المعرفة على نطاق واسع، والتوازن الدقيق بين الرؤية العلمية والواقع العملي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق