مدينة الغابة، ماليزيا: حلم المدينة الذكية الخضراء الذي يواجه واقعًا معقدًا
تُعد "مدينة الغابة" (Forest City) في ولاية جوهور الماليزية، بالقرب من سنغافورة، أحد أضخم مشاريع التطوير العقاري وأكثرها طموحًا وجدلاً في جنوب شرق آسيا. تم تسويقها كمدينة مستقبلية ذكية وخضراء، باستثمارات تقدر بحوالي 100 مليار دولار أمريكي، إلا أنها واجهت تحديات هائلة أدت إلى وصفها في كثير من الأحيان بـ "مدينة الأشباح".
الرؤية الطموحة: مدينة المستقبل البيئية
أُعلن عن مشروع مدينة الغابة لأول مرة في عام 2006، وتم إطلاقه رسميًا في عام 2016. الرؤية كانت بناء مدينة حديثة متكاملة على أربع جزر اصطناعية يتم استصلاحها من البحر في مضيق جوهور. كان من المخطط أن تستوعب المدينة حوالي 700,000 نسمة بحلول عام 2035.
تم تصميم "مدينة الغابة" لتكون نموذجًا للمدينة البيئية الذكية، مع تركيز كبير على المساحات الخضراء العمودية (تغطية واجهات المباني بالنباتات)، واستخدام التكنولوجيا الذكية في إدارة الموارد والبنية التحتية، وتوفير بيئة معيشية وعمل فاخرة. استهدف المشروع بشكل أساسي المشترين من الطبقة المتوسطة العليا من الصين، الذين يبحثون عن استثمارات عقارية في الخارج أو منازل لقضاء العطلات.
المطور والاستثمار: عملاق صيني وشراكة محلية
يقف وراء هذا المشروع الضخم شركة التطوير العقاري الصينية العملاقة "كانتري جاردن" (Country Garden)، من خلال مشروع مشترك مع شركة "إسبلاناد دانغا 88" (Esplanade Danga 88)، وهي كيان مرتبط بحكومة ولاية جوهور والسلطان. تمتلك "كانتري جاردن" الحصة الأكبر في هذا المشروع.
الموقع والحجم: على مرمى حجر من سنغافورة
تقع "مدينة الغابة" في منطقة إسكندر للتنمية الاقتصادية الخاصة في جوهور، على الطرف الجنوبي لشبه جزيرة ماليزيا، وتفصلها مسافة قصيرة جدًا (حوالي 2 كيلومتر بخط مستقيم) عن سنغافورة. هذا الموقع الاستراتيجي كان يُنظر إليه كعامل جذب رئيسي. يمتد المشروع على مساحة إجمالية مخطط لها تبلغ حوالي 30 كيلومترًا مربعًا (ما يعادل تقريبًا مساحة ماكاو)، مقسمة على أربع جزر اصطناعية.
التحديات والجدل: من الأحلام إلى الواقع الصعب
على الرغم من البداية الواعدة، واجهت "مدينة الغابة" سلسلة من التحديات والخلافات الكبيرة التي أثرت بشكل كبير على تقدمها وجدواها:
- المخاوف البيئية: أثار مشروع استصلاح الأراضي الشاسع لبناء الجزر الاصطناعية قلقًا كبيرًا بشأن تأثيره المدمر على النظم البيئية البحرية الحساسة في مضيق جوهور. تضمنت هذه المخاوف تدمير مناطق الأعشاب البحرية (مثل مرج تانجونج كومانج، الأكبر في ماليزيا) وغابات المانجروف (مثل محمية نهر بولاي للمانجروف، وهي منطقة رامسار ذات أهمية دولية)، مما أثر على التنوع البيولوجي وسبل عيش الصيادين المحليين.
- الجدوى الاقتصادية والاستدامة (وصف "مدينة الأشباح"): على الرغم من اكتمال جزء كبير من البنية التحتية والوحدات السكنية على الجزيرة الأولى، ظل معدل الإشغال منخفضًا للغاية. بحلول أواخر عام 2023 / أوائل 2024، كان عدد السكان الفعليين يقدر ببضعة آلاف فقط (حوالي 8,000 إلى 9,000 شخص)، وهو رقم ضئيل جدًا مقارنة بالهدف البالغ 700,000 نسمة. أدى هذا الفراغ إلى إطلاق وصف "مدينة الأشباح" على المشروع. كما واجهت شركة "كانتري جاردن" نفسها صعوبات مالية كبيرة وديونًا ضخمة في الصين، مما ألقى بظلال من الشك على قدرتها على إكمال المشروع الضخم.
- القضايا السياسية والسياسات الحكومية: أثار المشروع جدلاً سياسيًا في ماليزيا. خلال فترة رئاسة الوزراء السابقة لمهاتير محمد (الذي عاد للسلطة في 2018)، تم التعبير عن مخاوف بشأن بيع الأراضي للأجانب وتأثير الاستثمارات الصينية الكبيرة. فرضت الحكومة الماليزية قيودًا وتغييرات على برامج التأشيرات طويلة الأجل مثل برنامج "ماليزيا بيتي الثاني" (MM2H)، مما أثر على المشترين الأجانب المستهدفين. كما أدت القيود التي فرضتها الحكومة الصينية على خروج رؤوس الأموال إلى تباطؤ مبيعات العقارات للمواطنين الصينيين.
- تأثير جائحة كوفيد-19: أدت الجائحة والقيود على السفر الدولي إلى تفاقم المشاكل، حيث توقفت المبيعات بشكل كبير وتأخرت أعمال البناء.
- الاتصال والبنية التحتية: على الرغم من قربها الجغرافي من سنغافورة، فإن الوصول الفعلي وسهولة التنقل اليومي لا يزالان يمثلان تحديًا.
الوضع الحالي (مايو 2025) ومحاولات الإنعاش
في محاولة لإنقاذ المشروع المتعثر، اتخذت الحكومة الماليزية الحالية بقيادة رئيس الوزراء أنور إبراهيم عدة خطوات. في أغسطس 2023، أُعلن عن تصنيف "مدينة الغابة" كـ "منطقة مالية خاصة" (Special Financial Zone - SFZ). يهدف هذا التصنيف إلى جذب الاستثمارات العالمية، خاصة في مجالات الخدمات المالية والتكنولوجيا المالية، من خلال تقديم حوافز ضريبية (مثل معدلات ضريبة دخل خاصة للموظفين المؤهلين تصل إلى 15%، وإعفاءات ضريبية للشركات في قطاعات معينة)، وتسهيلات في إجراءات التأشيرات.
في يوليو 2024، أقر البرلمان الماليزي مشاريع قوانين لجعل الجزيرة الأولى من "مدينة الغابة" جزيرة معفاة من الرسوم الجمركية. هذه الخطوات تأتي في إطار جهود أوسع لدمج "مدينة الغابة" في المنطقة الاقتصادية الخاصة بين جوهور وسنغافورة (Johor-Singapore Special Economic Zone - JS-SEZ).
تشير بعض التقارير الحديثة (أوائل 2025) إلى أن هذه الحوافز بدأت تظهر بعض التأثيرات الإيجابية الأولية، مثل زيادة في مبيعات المساحات المكتبية. ومع ذلك، لا يزال فائض المعروض من الوحدات السكنية يمثل تحديًا كبيرًا.
النظرة المستقبلية: بين الأمل والحذر
مستقبل "مدينة الغابة" لا يزال غير مؤكد إلى حد كبير. تعتمد قدرتها على التعافي على نجاح مبادرة المنطقة المالية الخاصة في جذب استثمارات حقيقية ومستدامة، وعلى قدرة المطور على تجاوز الصعوبات المالية، وعلى تحسن ظروف السوق العقاري بشكل عام.
تُعتبر "مدينة الغابة" بمثابة دراسة حالة معقدة حول مخاطر وطموحات المشاريع العقارية العملاقة، وأهمية التخطيط الواقعي، ومراعاة العوامل البيئية والاجتماعية والسياسية. هل ستتمكن من التحول من "مدينة أشباح" إلى مركز مالي واقتصادي مزدهر، أم ستبقى نصبًا تذكاريًا لطموحات تجاوزت الواقع؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة.
الخلاصة
"مدينة الغابة" في ماليزيا هي مشروع ضخم يجسد تقاطع الأحلام الكبرى بالاستدامة والتكنولوجيا مع التحديات الواقعية للسوق والسياسة والبيئة. بينما تسعى الجهود الحكومية الجديدة لضخ حياة جديدة في المشروع من خلال تحويله إلى منطقة مالية خاصة، يظل الطريق أمامها طويلاً ومليئًا بالتحديات. قصتها تقدم دروسًا قيمة للمطورين والمخططين الحضريين والحكومات في جميع أنحاء العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق