الخميس، 8 مايو 2025

مستودع جبل يوكا للنفايات النووية: ملحمة علمية وسياسية لم تنته فصولها

 مستودع جبل يوكا للنفايات النووية: ملحمة علمية وسياسية لم تنته فصولها

يُعد مشروع مستودع جبل يوكا للنفايات النووية في ولاية نيفادا الأمريكية واحدًا من أكثر المشاريع الهندسية والبيئية إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة. كان الهدف منه توفير حل دائم وآمن للتخلص من النفايات المشعة عالية المستوى والوقود النووي المستهلك الناتج عن محطات الطاقة النووية والأنشطة الدفاعية في البلاد. لكن المشروع واجه عقودًا من المعارضة الشرسة والتحديات العلمية والسياسية، ليظل مصيره معلقًا حتى يومنا هذا.

الحاجة إلى حل دائم: معضلة النفايات النووية

مع تطور صناعة الطاقة النووية وتراكم النفايات المشعة الخطرة التي تظل نشطة لآلاف السنين، برزت الحاجة الملحة لإيجاد طريقة آمنة لعزل هذه المواد عن البيئة والبشر على المدى الطويل جدًا. في عام 1957، أوصت الأكاديمية الوطنية للعلوم بأن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي التخلص من النفايات في تكوينات صخرية عميقة ومستقرة تحت الأرض، وهو ما يُعرف بالمستودعات الجيولوجية العميقة.

جبل يوكا: الموقع المختار والمثير للجدل

يقع جبل يوكا في منطقة نائية وصحراوية بمقاطعة ناي، جنوب ولاية نيفادا، على بعد حوالي 130 كيلومترًا شمال غرب مدينة لاس فيغاس. يقع الموقع ضمن أراضي مملوكة للحكومة الفيدرالية، بالقرب من موقع نيفادا للتجارب النووية السابق.1

بدأت وزارة الطاقة الأمريكية (DOE) دراسة جبل يوكا في عام 1978. وفي عام 1982، أصدر الكونغرس قانون سياسة النفايات النووية (Nuclear Waste Policy Act)، الذي وضع إطارًا لاختيار وتطوير موقع لمستودع جيولوجي. وفي تعديل مثير للجدل للقانون عام 1987، وجه الكونغرس وزارة الطاقة للتركيز حصريًا على دراسة جبل يوكا كموقع وحيد محتمل، مما أثار غضب ولاية نيفادا التي شعرت بأنها مستهدفة بشكل غير عادل.

تم اختيار الموقع لعدة أسباب مفترضة، منها:

  • المناخ الجاف: تتمتع المنطقة بمعدل هطول أمطار منخفض جدًا، مما يقلل من احتمالية تسرب المياه وتآكل حاويات النفايات.
  • العمق الجيولوجي: كان من المخطط تخزين النفايات في أنفاق محفورة على عمق حوالي 300 متر (1000 قدم) تحت سطح الجبل، وحوالي 300 متر فوق منسوب المياه الجوفية.
  • نوع الصخور: يتكون الجبل بشكل أساسي من طبقات سميكة من "التوف" البركاني المتصلب، والذي كان يُعتقد أنه يوفر حاجزًا طبيعيًا مناسبًا.
  • الملكية الفيدرالية والموقع النائي: كون الموقع مملوكًا للحكومة الفيدرالية وبعيدًا عن الكثافة السكانية كان يُنظر إليه كميزة.

التصميم الهندسي: حواجز متعددة للعزل

كان تصميم مستودع جبل يوكا يعتمد على نظام متعدد الحواجز لضمان عزل النفايات المشعة لآلاف السنين:

  • حاويات النفايات: وضع الوقود النووي المستهلك والنفايات عالية الإشعاع في حاويات متينة ومقاومة للتآكل مصنوعة من سبائك معدنية خاصة.
  • الدروع الواقية (Drip Shields): تغطية حاويات النفايات بدروع واقية من التيتانيوم لمنع أي مياه قد تتسرب من الوصول إليها.2
  • الأنفاق الصخرية: وضع الحاويات داخل شبكة واسعة من الأنفاق المحفورة في عمق الجبل.
  • الحاجز الجيولوجي الطبيعي: الاعتماد على طبقات صخور التوف المحيطة لتوفير عزل إضافي وإبطاء أي حركة محتملة للمواد المشعة.

كان من المخطط أن يستوعب المستودع حوالي 70,000 طن متري من النفايات النووية.

عقود من المعارضة والتحديات:

واجه مشروع جبل يوكا معارضة شديدة ومنظمة منذ البداية، قادتها ولاية نيفادا وشملت العديد من الأطراف الأخرى:

  • معارضة ولاية نيفادا: اعترضت حكومة ولاية نيفادا بشدة على المشروع، معتبرة إياه تهديدًا لصحة وسلامة سكانها وبيئتها واقتصادها (خاصة قطاع السياحة في لاس فيغاس). رفعت الولاية العديد من الدعاوى القضائية وتحدت المشروع على أسس علمية وقانونية.
  • المخاوف البيئية: أثيرت مخاوف جدية بشأن:
    • تلوث المياه الجوفية: احتمالية تسرب المواد المشعة إلى طبقة المياه الجوفية العميقة تحت الجبل على مدى آلاف السنين.
    • النشاط الزلزالي والبركاني: يقع جبل يوكا في منطقة نشطة زلزاليًا، مع وجود فوالق قريبة، كما توجد أدلة على نشاط بركاني حديث نسبيًا في المنطقة المحيطة. أثارت هذه العوامل تساؤلات حول استقرار الموقع على المدى الطويل.
    • أداء الحواجز الهندسية: شكوك حول قدرة الحواجز الهندسية على الصمود ومقاومة التآكل لعشرات الآلاف من السنين المطلوبة لعزل النفايات.
  • مخاطر النقل: كان نقل كميات هائلة من النفايات المشعة عالية الخطورة عبر العديد من الولايات (حوالي 45 ولاية) باستخدام الشاحنات والقطارات إلى موقع المستودع مصدر قلق كبير للمجتمعات الواقعة على طول طرق النقل المقترحة، خوفًا من الحوادث أو الهجمات الإرهابية.
  • مخاوف الأمريكيين الأصليين: تعتبر أراضي جبل يوكا والمناطق المحيطة بها مقدسة للعديد من قبائل الأمريكيين الأصليين، بما في ذلك قبائل الشوشون الغربية وبايوت الجنوبية. اعترضوا على المشروع باعتباره انتهاكًا لأراضيهم الروحية والثقافية.
  • الجدل العلمي والتقني: استمر النقاش العلمي حول مدى ملاءمة الموقع، ودقة النماذج الجيولوجية والهيدرولوجية، والقدرة على التنبؤ بأداء المستودع على مدى فترات زمنية جيولوجية.

التطورات السياسية وتقلبات التمويل:

شهد مشروع جبل يوكا تقلبات سياسية كبيرة على مدى العقود:

  • فترات دعم وتطوير: حظي المشروع بدعم من بعض الإدارات الرئاسية والكونغرس، وتم إنفاق مليارات الدولارات على دراسة الموقع وتطويره، بما في ذلك حفر نفق استكشافي رئيسي.
  • وقف التمويل وتعليق المشروع: في عام 2010، وتحت إدارة الرئيس باراك أوباما، تم سحب طلب ترخيص المستودع من هيئة التنظيم النووي الأمريكية (NRC) وتم قطع التمويل الفيدرالي المخصص للمشروع بشكل كبير، مما أدى فعليًا إلى تعليقه. جاء هذا القرار استجابة للمعارضة القوية ولتوصيات لجنة الشريط الأزرق لمستقبل أمريكا النووي (Blue Ribbon Commission on America's Nuclear Future) التي دعت إلى نهج جديد قائم على الموافقة لإيجاد مواقع لمرافق إدارة النفايات النووية.
  • محاولات الإحياء: جرت عدة محاولات في الكونغرس وفي بعض الإدارات اللاحقة لإحياء المشروع وتوفير التمويل اللازم لاستكمال عملية الترخيص، لكنها واجهت معارضة مستمرة من وفد نيفادا في الكونغرس.

الوضع الحالي (مايو 2025): المشروع في حالة جمود

حتى مايو 2025، يظل مشروع مستودع جبل يوكا في حالة جمود. لم يتم إلغاؤه رسميًا بموجب القانون، لكنه لا يتلقى تمويلًا كبيرًا يسمح باستئناف العمل فيه أو استكمال عملية الترخيص. الموقع يخضع لأعمال صيانة محدودة.

تستمر الولايات المتحدة في مواجهة تحدي التخلص من النفايات النووية. في غياب مستودع دائم، يتم تخزين الوقود النووي المستهلك والنفايات عالية الإشعاع مؤقتًا في مواقع محطات الطاقة النووية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، وهو حل يعتبره الكثيرون غير مستدام على المدى الطويل. تركز السياسة الحالية بشكل متزايد على البحث عن حلول قائمة على الموافقة (consent-based siting) لتطوير مرافق تخزين مؤقت مركزية ومستودعات دائمة، مما يعني إشراك المجتمعات المحلية والولايات في عملية اختيار المواقع.

الاستثمار المالي: مليارات بلا عائد

تُقدر الأموال التي تم إنفاقها على دراسة وتطوير مشروع جبل يوكا منذ بدايته بمليارات الدولارات (تشير بعض التقديرات إلى أكثر من 10-15 مليار دولار). ارتفعت التقديرات الإجمالية لتكلفة دورة حياة المشروع (بما في ذلك البناء والتشغيل والإغلاق) إلى ما يقرب من 100 مليار دولار.

النظرة المستقبلية: طريق مسدود أم تحول في السياسة؟

تبدو فرص إحياء مشروع جبل يوكا في صورته الأصلية ضئيلة في ظل المعارضة السياسية والشعبية القوية والمستمرة من ولاية نيفادا، بالإضافة إلى التحديات العلمية التي لم يتم حسمها بشكل كامل. يتجه التركيز حاليًا نحو تطوير بدائل تشمل:

  • التخزين المؤقت الموحد: إنشاء مرافق مركزية لتخزين الوقود النووي المستهلك بشكل مؤقت وآمن حتى يتم تطوير حل دائم.
  • البحث عن مواقع بديلة قائمة على الموافقة: اتباع نهج جديد يتضمن مشاركة المجتمعات المحلية والولايات في اختيار مواقع جديدة للمستودعات الدائمة، مع توفير حوافز اقتصادية.
  • تقنيات إعادة المعالجة المتقدمة: استكشاف تقنيات جديدة لإعادة معالجة الوقود النووي المستهلك لتقليل حجم النفايات واستخلاص المواد القابلة للاستخدام.

الدروس المستفادة: تقاطع العلم والسياسة والمجتمع

تقدم ملحمة جبل يوكا دروسًا قيمة حول التحديات المعقدة التي تواجه المشاريع الكبرى المثيرة للجدل، خاصة تلك المتعلقة بالبيئة والصحة العامة على المدى الطويل. من أبرز هذه الدروس:

  • أهمية الموافقة المجتمعية: لا يمكن فرض مشاريع بهذه الحساسية على المجتمعات والولايات دون موافقتها ومشاركتها الفعالة.
  • تحديات التنبؤ طويل الأجل: صعوبة إثبات سلامة وأمان المرافق المصممة لآلاف السنين بشكل قاطع علميًا.
  • تأثير السياسة على العلم: كيف يمكن للعوامل السياسية أن تؤثر على تمويل وتوجيه وتقييم المشاريع العلمية الكبرى.
  • الحاجة إلى الشفافية والثقة: أهمية بناء الثقة بين الحكومة والمؤسسات العلمية والجمهور في إدارة القضايا المعقدة مثل النفايات النووية.

خاتمة

يظل مستودع جبل يوكا للنفايات النووية مشروعًا غير مكتمل وفصلاً طويلًا ومكلفًا في تاريخ إدارة النفايات النووية في الولايات المتحدة. قصته هي تذكير دائم بأن الحلول التقنية وحدها لا تكفي، وأن القضايا التي تمس البيئة والصحة العامة والأجيال القادمة تتطلب توافقًا واسعًا وحوارًا شفافًا بين العلم والسياسة والمجتمع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق