الخميس، 8 مايو 2025

مطار ثيوداد ريال المركزي: من حلم الطيران إلى "مطار الأشباح" الأشهر في إسبانيا

مطار ثيوداد ريال المركزي: من حلم الطيران إلى "مطار الأشباح" الأشهر في إسبانيا

يُعد مطار ثيوداد ريال المركزي (Ciudad Real Central Airport)، الذي كان يُعرف سابقًا باسم مطار دون كيخوتي (Don Quijote Airport)، أحد أبرز الأمثلة في إسبانيا وربما في أوروبا على مشاريع البنية التحتية الطموحة التي تحولت إلى ما يُعرف بـ "مشاريع الأفيال البيضاء" أو "مطارات الأشباح". قصته هي مزيج من الأحلام الكبيرة، والاستثمارات الضخمة، والتوقيت السيء، ليصبح رمزًا لحقبة الازدهار والانكماش الاقتصادي التي مرت بها إسبانيا.

الحلم والرؤية: بديل لمدريد ومركز لوجستي

كانت الرؤية وراء إنشاء مطار ثيوداد ريال المركزي طموحة للغاية. تم تصميمه ليكون بمثابة مطار دولي بديل يخفف الضغط عن مطار مدريد-باراخاس الدولي المزدحم، والذي يقع على بعد حوالي 200 كيلومتر شمالًا. لم يقتصر الطموح على استقبال رحلات الركاب، بل امتد ليشمل تطويره كمركز رئيسي للشحن الجوي، مستفيدًا من موقعه في وسط إسبانيا. كما كان هناك أمل في أن يجذب شركات الطيران منخفضة التكلفة.

تميز المطار ببنية تحتية مثيرة للإعجاب، بما في ذلك مدرج يُعد من بين الأطول في أوروبا بطول 4100 متر، مما يسمح له باستقبال أكبر طائرات الركاب والشحن، بما في ذلك طائرة إيرباص A380. كما تم تصميم مبنى الركاب ليستوعب ما يصل إلى 10 ملايين مسافر سنويًا، مع مرافق شحن قادرة على التعامل مع آلاف الأطنان من البضائع. وكان جزء من الخطة الطموحة ربط المطار بشبكة قطارات AVE عالية السرعة القريبة، مما يقلل زمن الرحلة إلى مدريد ومدن إسبانية كبرى أخرى، إلا أن هذا الربط الحيوي لم يتم تنفيذه بالكامل.

استثمار ضخم وعمر تشغيلي قصير

بدأ بناء المطار في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، خلال فترة ازدهار قطاع البناء في إسبانيا. تم اعتباره أول مطار دولي خاص في البلاد، وضخ فيه استثمارات هائلة تقدر بأكثر من مليار يورو (حوالي 1.1 مليار دولار أمريكي).

افتُتح المطار رسميًا في عام 2009، وسط آمال كبيرة. ومع ذلك، كانت فترة تشغيله التجاري قصيرة للغاية ومخيبة للآمال. لم يتمكن المطار من جذب سوى عدد قليل جدًا من شركات الطيران، مثل رايان إير (Ryanair) وفيولينغ (Vueling)، وبعض الرحلات العارضة لشركات أخرى مثل إير برلين وإير نوستروم. كانت أعداد الركاب منخفضة بشكل كارثي، ولم تقترب أبدًا من الأهداف المتوقعة.

الطريق إلى الفشل: أسباب متعددة

تضافرت عدة عوامل أدت إلى الانهيار السريع لمطار ثيوداد ريال المركزي:

  • الأزمة المالية العالمية: تزامن افتتاح المطار مع بداية الأزمة المالية العالمية في عام 2008، والتي ضربت الاقتصاد الإسباني بشدة، مما أدى إلى انخفاض حاد في السفر الجوي والنشاط الاقتصادي بشكل عام.
  • نقص الطلب وسوء التقدير: كان هناك سوء تقدير كبير لحجم الطلب الفعلي على السفر والشحن الجوي عبر المطار. المنافسة الشرسة من مطار مدريد-باراخاس، الذي قام بتوسعات كبيرة في نفس الفترة تقريبًا، جعلت من الصعب على مطار جديد وبعيد نسبيًا جذب شركات الطيران والركاب.
  • الموقع والربط: أثبت موقع المطار، على الرغم من كونه "مركزيًا" جغرافيًا، أنه غير جذاب. بُعده عن المراكز السكانية الكبرى، وفشل ربطه بشكل فعال بشبكة القطارات عالية السرعة، جعله خيارًا غير مريح للمسافرين. كانت الرحلة البرية إلى مدريد تستغرق حوالي ساعتين.
  • المشاكل المالية والإفلاس: مع تراجع الإيرادات وتراكم الديون، واجهت الشركة المشغلة للمطار صعوبات مالية متزايدة. بحلول عام 2010، أُعلن إفلاس المطار، وتوقفت جميع العمليات التجارية بشكل كامل في أبريل 2012.

الإغلاق ولقب "مطار الأشباح"

بعد إغلاقه في عام 2012، تحول مطار ثيوداد ريال المركزي بسرعة إلى "مطار أشباح" بكل معنى الكلمة. المباني الحديثة والمدرج الطويل أصبحت مهجورة وفارغة، تقف كشاهد صامت على حلم لم يتحقق. أصبح المطار موضوعًا للتقارير الإعلامية العالمية التي تسلط الضوء على مشاريع البنية التحتية الفاشلة في إسبانيا خلال فترة الأزمة.

محاولات البيع والإحياء الباهتة

على مر السنين، جرت عدة محاولات لبيع المطار. طُرح في مزادات علنية بأسعار تبدأ من 100 مليون يورو، وهو جزء ضئيل من تكلفة بنائه، ولكن لم يتقدم مستثمرون جادون في البداية. في إحدى المراحل المثيرة للسخرية، عرضت مجموعة استثمارية صينية شراء المطار بمبلغ رمزي قدره 10,000 يورو فقط، وهو عرض رفضته المحكمة الإسبانية.

أخيرًا، في عام 2018، تم بيع المطار لشركة (CR International Airport SL) مقابل حوالي 56.2 مليون يورو. أُعيد فتح المدرج والمطار في سبتمبر 2019، ولكن ليس لرحلات الركاب التجارية المجدولة. بدلاً من ذلك، وجد المطار استخدامات محدودة ومختلفة عن رؤيته الأصلية:

  • تخزين وصيانة الطائرات: خلال جائحة كوفيد-19، ومع توقف حركة الطيران العالمية، استُخدم المطار كموقف لتخزين الطائرات التي لم تجد مكانًا آخر. كما استقطب بعض شركات صيانة وتفكيك الطائرات.
  • موقع تصوير: بفضل مرافقه الحديثة والمهجورة، أصبح المطار موقعًا جذابًا لتصوير الأفلام والبرامج التلفزيونية والإعلانات التجارية. من أبرزها فيلم للمخرج الإسباني بيدرو ألمودوبار، وحلقة من برنامج "توب جير" البريطاني الشهير، وإعلان لشركة فولفو للشاحنات.
  • طيران خاص وتدريب: استُخدم المطار بشكل متقطع لرحلات الطيران الخاصة ولأغراض تدريب الطيارين.

الوضع الحالي (مايو 2025) والدروس المستفادة

حتى أوائل عام 2025، لا يزال مطار ثيوداد ريال المركزي بعيدًا كل البعد عن تحقيق الهدف الذي بُني من أجله. على الرغم من بعض الأنشطة المحدودة في مجال الصيانة والتخزين، فإنه يظل غير مستغل إلى حد كبير كمرفق ركاب أو شحن حيوي. في عام 2024، ورد أن الحكومة الإسبانية نظرت لفترة وجيزة في تحويله إلى مركز استقبال للمهاجرين، لكن الخطة تم التخلي عنها بسرعة بسبب معارضة محلية قوية.

قصة مطار ثيوداد ريال المركزي هي قصة رمزية تحمل العديد من الدروس:

  • مخاطر الطموح المفرط: تُظهر كيف يمكن للمشاريع العملاقة، إذا لم تستند إلى دراسات جدوى واقعية وتقييم دقيق للطلب، أن تتحول إلى عبء مالي.
  • تأثير الفقاعات الاقتصادية: يعكس المطار بشكل واضح عواقب طفرات البناء غير المستدامة التي يمكن أن تؤدي إلى استثمارات غير مدروسة.
  • أهمية الموقع والربط: تؤكد على أن البنية التحتية الممتازة وحدها لا تكفي إذا لم تكن مدعومة بموقع استراتيجي وسهولة وصول فعالة.
  • تصميم تجربة العميل: فشل المطار في فهم احتياجات وسلوكيات العملاء الرئيسيين (شركات الطيران والمسافرين) كان عاملاً حاسماً في عدم نجاحه.

خاتمة: نصب تذكاري لطموح مكلف

مطار ثيوداد ريال المركزي، الذي كان يُحلم به كبوابة جديدة لإسبانيا ومركز اقتصادي مزدهر، يقف اليوم كأحد أشهر "مطارات الأشباح" في العالم. إنه تذكير صارخ بأن الأحلام الكبيرة في عالم البنية التحتية يجب أن تُبنى على أسس صلبة من الواقعية الاقتصادية والتخطيط الدقيق، وإلا فإنها قد تتحول إلى مجرد آثار باهظة الثمن لطموحات لم تكتمل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق