الجمعة، 5 ديسمبر 2025

هايتي وجمهورية الدومينيكان: جزيرة واحدة.. مصيران متعاكسان

 

هايتي وجمهورية الدومينيكان: جزيرة واحدة.. مصيران متعاكسان

على خريطة العالم، تبدو جزيرة هيسبانيولا في الكاريبي قطعة صغيرة من اليابسة وسط المحيط، تتقاسمها دولتان: هايتي في الغرب، وجمهورية الدومينيكان في الشرق.
لكن خلف هذا التقاسم البسيط جغرافيًا، توجد واحدة من أوضح القصص في التاريخ عن كيف يمكن لخط على الخريطة أن يفصل بين واقعين مختلفين تمامًا: فوضى وفقر وانهيار في طرف، وسياحة واستقرار واقتصاد نامٍ في الطرف الآخر.

السؤال الذي يفرض نفسه:
كيف انتهت هايتي لتصبح مثالًا للدولة المنهارة، بينما تحولت جمهورية الدومينيكان إلى وجهة سياحية واقتصاد متنوع على نفس الجزيرة؟

الموضوع مش "حظ سيئ" فقط، بل مزيج معقد من التاريخ الاستعماري، والعبودية، والديون، والجغرافيا، والزلازل، وسوء الإدارة السياسية.


البداية: عندما قسمت أوروبا الجزيرة نصفين

في أواخر القرن الخامس عشر، وصل كريستوفر كولومبوس إلى هيسبانيولا وأعلنها أرضًا تابعة لإسبانيا، متجاهلًا الشعوب الأصلية التي كانت تعيش هناك منذ زمن.
لكن مع الوقت، لم تُعامل إسبانيا الجزيرة كجوهرة إمبراطوريتها، بل كقاعدة خلفية لخدمة مستعمراتها الأغنى في أميركا اللاتينية.

هذا الإهمال فتح الباب لفرنسا كي تثبّت وجودها في الجزء الغربي من الجزيرة.
وبمرور العقود، صار لدينا واقع جديد:

  • غرب الجزيرة (هايتي لاحقًا): مستعمرة فرنسية تعتمد بشكل كثيف على مزارع السكر والعبيد.

  • شرق الجزيرة (جمهورية الدومينيكان لاحقًا): مستعمرة إسبانية أقل كثافة سكانية، وأقل اعتمادًا على العبودية، وأقل أولوية سياسيًا واقتصاديًا.

في أواخر القرن الثامن عشر، كانت الأرقام صادمة تقريبًا:
الجانب الفرنسي (هايتي) كان مليئًا بالعبيد الأفارقة مقارنة بعدد قليل من الأحرار، بينما الجانب الإسباني كان أكثر توازنًا بين سكان أحرار وأعداد أقل بكثير من العبيد.

هذه المعادلة صنعت أول فارق جوهري:
هايتي تحولت إلى "آلة أرباح" لفرنسا بفضل مزارع السكر، لكن على حساب مجتمع مفكك قائم على العبودية والعنف والاستغلال.


ثورة العبيد: الحرية جاءت.. لكن بثمن رهيب

في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، قام العبيد في هايتي بثورة ضخمة، واحدة من أهم الثورات في تاريخ البشرية، وانتهت بإعلان أول جمهورية سوداء مستقلة في العالم، ودولة قامت على تمرد ناجح ضد نظام عبودي أوروبي.

لكن هذا الإنجاز التاريخي لم يُقابل بالتصفيق من القوى الكبرى، بل بالخوف والعقاب.

  • القوى الأوروبية والولايات المتحدة خشيت من أن تصبح هايتي نموذجًا يحتذى به للعبيد في أماكن أخرى.

  • تم عزل هايتي اقتصاديًا وسياسيًا، واعتبارها "دولة خارجة عن النظام" يجب ألا تُسمح لها بالنجاح.

فرنسا طالبت هايتي بتعويضات هائلة مقابل "خسارة ممتلكاتها" من العبيد والأراضي، واضطرت هايتي للموافقة على دفع ديون ضخمة بالفرنك الفرنسي استمرت تثقلها لعقود طويلة.
بمعنى حرفي:
دولة خرجت من ثورة ضد العبودية وجدت نفسها تدفع تعويضات لِمَن كانوا يستعبدون شعبها سابقًا.

في المقابل، جارتها على نفس الجزيرة – المستعمرة الإسبانية – لم تمر بالصدمة نفسها، وظلت في مسار أقل اضطرابًا سياسيًا، إلى أن استقلت لاحقًا كجمهورية الدومينيكان.


احتلال، ديون، وحكم الجزيرة كاملة

في مرحلة من المراحل، سيطرت هايتي على كامل جزيرة هيسبانيولا لفترة من الزمن في القرن التاسع عشر، وفرضت ضرائب كبيرة على الجزء الشرقي (الدومينيكاني) من أجل سداد ديونها لفرنسا.
هذا خلق عداء وصراعات جديدة انتهت باستقلال جمهورية الدومينيكان، وترسخ الانقسام إلى دولتين منفصلتين كما نعرفهما اليوم.

من هنا، تبلور مساران مختلفان:

  • هايتي: دولة خرجت من ثورة دموية، مثقلة بالديون، معزولة خارجيًا، وبنية سياسية هشة.

  • جمهورية الدومينيكان: مسار أقل صدامية مع القوى الكبرى، واستقرار نسبي سمح لاحقًا بتطور مختلف.


الجغرافيا: الطبيعة ليست محايدة دائمًا

الجزيرة واحدة، لكن الظروف الطبيعية ليست متطابقة.

  • شرق الجزيرة (جمهورية الدومينيكان) يحصل على كميات كبيرة من الأمطار القادمة من الشرق، ما يدعم غابات استوائية وزراعة أفضل.

  • غرب الجزيرة (هايتي) يقع في ظل مطري نسبيًا، أكثر جفافًا وأقل خصوبة في العديد من المناطق.

تاريخيًا، أضافت فرنسا إلى المشكلة في هايتي عبر إزالة مساحات واسعة من الغابات لقطع الأخشاب وشحنها إلى أوروبا.
ومع قلة الأمطار، لم تستطع هايتي استعادة غطائها الشجري كما هو الحال في الجانب الدومينيكاني.
النتيجة:
أراضٍ منهكة، تربة متهالكة، قابلية أكبر للانجراف والتصحر، وزراعة ضعيفة.

ثم نضيف عاملًا آخر:
هايتي تقع على فالق نشط تكتونيًا، تسبب في زلازل مدمرة، أبرزها زلزال 2010 القاتل، وزلزال 2021، والعديد من الهزات التاريخية.
بينما الفالق في الجانب الدومينيكاني أقل نشاطًا ويمر في مناطق أقل كثافة سكانية.

بمعنى آخر:
حتى الجيولوجيا والقشرة الأرضية لم تكن رحيمة بهايتي.


القرن العشرون: تدخلات خارجية وحكم ديكتاتوري

مع دخول القرن العشرين، كانت هايتي غارقة في الديون لفرنسا وأطراف أخرى، غير قادرة على تقديم خدمات أساسية لشعبها.
هذا الفراغ فتح الباب لانقلابات متكررة وتمردات، وهو ما دفع الولايات المتحدة للتدخل واحتلال هايتي في 1915 بحجة حماية مصالحها.

خلال الاحتلال الأميركي:

  • تم بناء بعض البنية التحتية المركزية، خصوصًا في العاصمة.

  • لكن ذلك تم باستخدام العمل القسري، ما عمّق الشعور بالظلم والاستغلال.

بعد خروج الولايات المتحدة في الثلاثينيات، دخلت البلاد في حقبة من الأنظمة الديكتاتورية القمعية، مثّلتها عائلات وأنظمة حكم اشتهرت بالفساد والعنف وسوء الإدارة.

في لحظات لاحقة، حين احتاجت هايتي إلى دولة قوية قادرة على إدارة الأزمات، كانت المؤسسات متهالكة، والدولة أضعف بكثير من التحديات التي تواجهها.


الكارثة المتراكمة: من الزلزال إلى انهيار الدولة

في عام 2010، ضرب زلزال قوي قرب العاصمة، فانهارت المباني على نطاق واسع، وقُدّر عدد الضحايا بمئات الآلاف.
البنية التحتية الضعيفة، وغياب التخطيط العمراني السليم، والفقر، جعلت تأثير الزلزال مدمّرًا بشكل مضاعف.

رغم تدفّق المساعدات الدولية، واجهت هايتي صعوبة كبيرة في إعادة البناء، بسبب الفساد، ضعف مؤسسات الدولة، وسيطرة مجموعات غير رسمية على مناطق واسعة.

ثم في 2021:

  • اغتيال آخر رئيس منتخب لهايتي.

  • زلزال جديد يضرب جنوب البلاد.

ليصل الوضع اليوم إلى:

  • لا رئيس منتخب.

  • لا برلمان فاعل.

  • نظام قضائي شبه غائب.

  • وسيطرة واسعة للعصابات على أجزاء كبيرة من البلاد.

بهذا المعنى، صارت هايتي أقرب إلى "دولة بلا دولة".


في الجهة الأخرى من الحدود: قصة مختلفة تمامًا

بينما كانت هايتي تغرق في الديون والفوضى، سارت جمهورية الدومينيكان في مسار آخر، رغم أنها لم تخلُ من الديكتاتوريات والمشاكل.

لكن في النهاية:

  • تمكنت من بناء مؤسسات دولة أكثر استقرارًا.

  • نجحت في جذب الاستثمارات وتطوير قطاع السياحة بشكل ضخم.

  • تنوّع اقتصادها بشكل ملحوظ، من الزراعة والصناعة إلى الخدمات والسياحة.

اليوم، الفارق الاقتصادي بين البلدين هائل، رغم تقارب عدد السكان.
جزء كبير من هذا الفارق يعود إلى:

  • القدرة على بناء دولة ومؤسسات تعمل بشكل مقبول.

  • إدارة أفضل للموارد.

  • بيئة أكثر أمانًا لاستقبال الاستثمارات والزوار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق